المرحلة الانتقالية بحكم التعريف هى تدافع غير منظم بين بعض القديم وبعض الجديد. وتداخل غير منضبط بين قوى تسير إلى الأمام وهى ناظرة إلى الخلف وأخرى تقفز إلى الأمام بلا أى اعتبار للماضى وبينهما بدائل متنوعة. المرحلة الانتقالية اشتباك حاد بين من يطالبون بالحقوق دونما اعتبار للحقائق وبين من يتذرعون بالحقائق دونما اعتبار للحقوق. وفى هذه المرحلة الانتقالية تنقسم حسابات الناس كذلك بين الثورى والإصلاحى والمحافظ والرجعى. وقد كان الظن الغالب على كثيرين فى مرحلة سابقة أن زواجا حدث بين الثوريين والمحافظين، ولكن أزعم الآن أن بعض المحافظين هم حقيقة رجعيون فهموا الثورة على أنها منع سيناريو التوريث فقط، ولو أمكن لهم استعادة «حسنى» للسلطة من غير «جمال» لفعلوها، ولو أمكن استعادة الحزب الوطنى بقيادة مفيد شهاب مثلا بدون أحمد عز لاعتبروا أن ذلك الأصلح لمصر. ولما تبين لى أن بعض القيادات العليا اختزلت مهمة الاستشارة السياسية فى «تحسين الصورة» والتسويق للسياسات أيا ما كان محتواها دون «تحسين الأداء» كان لابد من تسجيل موقف واضح بالاستقالة ومن ثم توضيح أن هذه الثورة لم تقم للتخلص من شخص أو عدة أشخاص وإنما من عقلية التسلط وبنية الاستبداد التى ترى أنه من الأفضل ألا نغير شيئا غير مضطرين لتغييره.
العقلية الثورية لها حسناتها ولكن كان لا بد لها من قيادة عليا تديرها؛ فاندفاع الماء بلا قناطر أو سدود يمكن أن يكون تأثيره أكثر كارثية من شح الماء. والعقلية الإصلاحية المتمهلة أكثر من اللازم لن تنجح فى اغتنام روح الثورة التى أحسبها لم تزل كامنة وباحثة عن مشروع قومى إما للبناء أو للهدم. لكن العقلية المحافظة ثقافيا (وليس بالضرورة دينيا) التى تغلب على المجتمع هى أكبر عائق أمام هذه الثورة بل وهذا الوطن. المحافظ هو من يفضل ما نعرف على ما لا نعرف، هو من يدعى وصلا بشرع الله حتى وإن لم تبد عليه أمارات الورع الشخصى، هو من يفضل كبير السن على صغيره حتى وإن كان الأصغر أكفأ، الرجل على المرأة حتى وإن كانت المرأة أكثر جدية، يفضل التقليد على الإبداع فى زمن ثبت فيه أن التقليد لم يعد كافيا. لكن لا تعيش العقلية المحافظة إلا فى حضانة العقلية الرجعية التى ترى أن القديم مهما كانت عيوبه أفضل من الجديد مهما كانت مميزاته وأن ما ألفينا عليه آباءنا هو بوابة النجاة والنهضة، ولكن الأسوأ من كل ذلك أن الرجعى يرى أن الثورى والإصلاحى وكأنهم عميلان أو خائنان للوطن بل ويحاربهما.
هذه فترة تاريخية سيتدافع فيها الثورى والإصلاحى والمحافظ والرجعى. وسوء قراءة المشهد خطر. ومما كتبه الرئيس جمال عبدالناصر فى مذكراته أن ثورة 1919 قد سرقت من القوى الرجعية فكان هذا هاجسه الأكبر الذى جعله يرفض الديمقراطية التى كانت ستأتى بالرجعيين مرة أخرى. ولكن النتيجة، كما عشنا، كانت أن قام الثورى نفسه بلعب دور الرجعى بعد أن تزوجت الثورة بالسلطة.
التدافع قائم، وستكون الجمعية التأسيسية ساحة عظمى لهذا التدافع وأملى أن يتغلب الثورى والإصلاحى على المحافظ والرجعى دونما خروج على قواعد الديمقراطية التشاركية مهما كانت النتائج على غير هوانا.