تتحرك رحى غضب قادم من أقاليم مصر متمثلة فى اضرابات متتالية وانقطاع طرق فى المنوفية والدقهلية والغربية وأقاليم صعيد مصر بسبب إضراب العاملين المطالبين بزيادة الأجور أو التثبيت، وهى تعبير من لا يملك ترف المجادلة حول هل الإضراب حلال أم حرام وإن كان سيهدم الدولة أم لا. يحدث ذلك فى منأى من دعوة القوى الثورية للعصيان المدنى ذى الهدف السياسى المتمثل فى تسريع تسليم السلطة للمدنيين، إلا أن هذه المطالبات التى يقوم بها عمال السكك الحديدية وعمال قناطر إسنا المسماة من قبل الحكومة والإعلام المصرى ب«فئوية» لن تتحقق إلا من خلال تغييرات جذرية فى النظام الإدارى والسياسى للدولة. ●●●
وبينما تغلى مصر وتميز تحت وطأة مطالب غير متحققة على مدى عام منذ قيام ثورة 25 يناير يسلط إعلام استقطابى الضوء على مشهد واحد وواحد فقط، للقوى المتصارعة على قمة الهرم السياسى فى البرلمان مشهد يتجادل فية أعضاء مجلس الشعب حول من هو الثائر ومن البلطجى بينما تلف ساحة مبنى البرلمان الخارجية دخان قنابل الغاز المسيل للدموع الناتج عن المعركة المحتدمة فى لاظوغلى بين عساكر وزارة الداخلية والمتظاهرين الثائرين.
وقد رفع نواب التيار المسمى إعلاميا بالمدنى والليبرالى راية الإضراب عن الطعام انتصارا لقيم ثورة يرون أن برلمانا غالبيته ذات توجه إسلامى محافظ سياسيا واجتماعيا ومهادن فى رأيهم للسلطة، يرون أن هذه الأغلبية تريد وأد الثورة، بينما يرى النواب المنتمون لتيار الإخوان المسلمين والسلفية والجماعة الإسلامية (وهو ما تبدى من التعليقات تحت القبة فى جلسة البرلمان الأخيرة) أن نواب التيار الثورى المعارض مشاغبون يعوقون مسيرة الإصلاح فى أحسن الأحوال أو يؤججون نار الفتن بما يضر بالبرلمان نفسة وب«المصلحة الوطنية» على أسوأ الافتراضات.
ومع تلاحق الأحداث والانقسام فى الرؤى حول كيفية تحقيق أهداف الثورة وقضية مثل العصيان المدنى أو اعتصام النواب داخل البرلمان يدور حوار فى منتديات الإعلام والتواصل الاجتماعى تتبادل فيه التيارات السياسية الممثلة فى البرلمان الشكوك ولا نقل الاتهامات حول النوايا الحقيقية للآخر إلا أن فى هذه اللحظات الفارقة المصالحة واجبة لرأب صدع سيعوق الجهود المقبلة لتكوين حكومة ائتلافية أو حكومة إنقاذ وطنى.
●●●
والمعضلة التى يجب أن تواجهها القوى الليبرالية والثورية التى ترى أن التيار الإسلامى المحافظ ذو الرؤية المتدرجة للإصلاح هو فى الحقيقة مقوض للثورة هى أن هذا التيار برؤاه هو بالفعل المعبر عن المزاج العام للمصريين (ولا يعنى ذلك أن حالة الثورة المتأججة ليست قريبة دائما تحت السطح). والتيار الإسلامى بروافده هو الضارب فى جذور المجتمع ليس اليوم فقط ولكن على مدى ثمانية عقود صعودا وهبوطا. وتستمد القوى الدينية تأثيرها من رؤية كونية للمصريين لا تفصل الدين عن كل مناحى الحياة وهو ما يدركه بدون أى التباس، كل من عايش الفلاح المصرى وعرف الريف فالغالبية إذن، التى شاركت بالتصويت فى الانتخابات البرلمانية التى لا ينبغى ولا يصح أن يتم تفسير اختيارها للتيار الإسلامى بأنه نابع فى المقام الأول عن جهل أو جوع، هذه الكتلة الناخبة تظل هى الظهير الاجتماعى الأكبر للثورة، وإذا استمرت القوى الليبرالية والثورية فى رفض وأحيانا احتقار التيار الإسلامى متمثلا فى نوابه المنتخبين سيكون كمن لا يقبل ولا يفهم اختيارات الشعب الذى به ومن أجله قامت الثورة. وبالنسبة للتيار السلفى ورغم تصريحات بعض المتحدثين باسمه الصادمة للرؤية الوسطية للمصريين فشباب هذا التيار المنخرط حديثا فى العمل السياسى أبدوا قدرا عاليا من المرونة ورغبة فى تطوير الأداء وإن ظل أداء غير متوحد لأن التيار السلفى «مدارس» ليست مصطفة تحت تنظيم هيكلى صارم كما هو حادث فى حالة جماعة الإخوان المسلمين.
إلا أنه وإن جاء اختيار المصريين لتيار الإسلام السياسى والسلفية على أرضية متجذرة فى تركيبها لمجتمع فهى تظل اختيارا مشروطا بشرط ضمنى وهو ليس فقط أن يحقق التيار المقصى منذ نشأته ويأخذ فرصته الآن ليس فقط أن يحقق هذا التيار النهضة الشاملة التى يعد بها ولكن أن يستكمل أيضا أهداف الثورة وعلى رأسها اجتثاث الفساد السياسى ومحاكمة رءوس النظام السابق على خطايا 3 عقود، الاقتصاص لقتلى لازالوا يتساقطون بفعل فاعل مجهول. هذا ما ينتظره المصريون ولن يقبلوا بأقل من ذلك من أجل تجديد الثقة بأى تيار أيا كانت مرجعيته.
وعلى الجانب الآخر على تيار الإسلام السياسى ورموزه ونوابه أن يكف البعض منهم عن اتهام القوى الثورية الشابة والمؤثرة فى المجتمع التى تمثل رؤى جيل بأكمله سيكون المستقبل له عليهم أن يكفوا عن التلميح بأنه أولا يعملون وفق «أجندة » خارجية موحين بذلك باللجوء لأساليب الأنظمة السلطوية فى تقويض كل ما هو مغاير ومعارض وهذا المنهج لن يكون فى صالح قوى الإسلام السياسى على المدى البعيد، وحتى المتوسط.
●●●
والسؤال يطرح نفسه: ماذا سيفعل أصحاب التيارين الحاضرين على المشهد السياسى المنوط بهما قيادة التحول الثورى الراهن وهما الإسلام السياسى بروافده، والقوى الثورية والليبرالية؟ هل يتكلم الكل باسم الشعب والثورة بينما جزء من طاقته مشحوذ لمشاغبة الآخر أو اتهامه بالتواطؤ والعمالة، كل حسب موقعة على الخريطة السياسية؟ أنتم بذلك تحولون الإمكانية الهائلة للقيادة التى أتيحت لكم، مجتمعين، إلى مجادلة سياسية تتسلى عليها الفضائيات. مشاكل المصريين تزداد تحت وطأة غياب الحلول ومؤسسات تدير الأزمات الطاحنة ولا يوجد الآن إلا البرلمان الذى قد يواجه أيضا شبهة عدم الدستورية إذا ما تمت كتابة دستور جديد يتعارض تكوين البرلمان المنتخب حديثا مع بنوده.
البرلمان حتى، فى هذا السياق، ليس هو الغنيمة الكبرى ولا حتى الضمان لاستمرار القوى السياسية الحالية على الساحة بنفس التكوين. الفيصل الوحيد للاستمرارية سيكون قدرة الأفراد، الذين يكونون هذه النخبة المتشرذمة فيما بينها، على تنحية الخلاف ومد جسور التواصل لما هو أهم: تشكيل حكومة ائتلافية أو حكومة وحدة وطنية تقود مصر فى لحظة يتأجج فيها المجتمع وينتفض، وإلا، فإن نفس الدواعى التى أدت إلى ثورة 25 يناير 2011 من عدم اكتراث وغياب رؤى وعلاجات سطحية للمشاكل، ستؤدى إلى ثورة شعبية أخرى لا تعرف أخضر ولا يابسا، ولا تفرق بين إسلامى وليبرالى إلا بما سينجزه للناس: فتصالحوا، يرحمكم الله.