تعيش مصر لحظة فارقة فى تاريخها السياسى. إن خروج مئات الآلاف من المواطنين إلى الشارع للتعبير عن الضغط السياسى والاجتماعى والاقتصادى وعن الرغبة فى إحداث تغييرات وإصلاحات جوهرية فى النظام المصرى بمفهومه الشامل هو دليل واضح على أن المواطن المصرى لديه من الوعى السياسى والقدرة على المشاركة والتضحية، ما يؤهله للقيام بأدوار أكثر تعقيدا وتنظيما تتعلق بصنع القرارات الخاصة بحياته اليومية، وتلك المتعلقة بمستقبله ومستقبل أولاده. وعلى الرغم من تعدد وجهات النظر بشأن تفسير ما شهدته مصر خلال الأسابيع الماضية، فإن هناك قدرا من التوافق على ضرورة إقامة دولة مدنية حديثة فى مصر ترتكز على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وتدعيم مبادئ المواطنة والحكم الرشيد التى تكفل المساءلة والمشاركة الواسعة فى صنع القرار. وفى إطار السعى لتأسيس الدولة المدنية الحديثة تبدو اللا مركزية أحد الأعمدة الأساسية لأركان هذه الدولة بل إنها أقصر الطرق للممارسة الحقيقية لمبادئ وآليات الدولة المدنية الحديثة. إن اللامركزية تعنى قدرة المواطنين على انتخاب قياداتهم التنفيذية ومساءلتهم عن أعمالهم وتوجيه البرامج التنموية والمشاركة فى صياغتها وتنفيذها، كما أنها تعنى تقريب سلطة صنع القرار إلى المواطنين وتمكينهم من أداء أدوار سياسية وخدمية ومالية حقيقية فى إطار منظم ومنضبط. إن النظم المحلية القائمة على اللامركزية هى أحد الميادين الأساسية لممارسة الديمقراطية والحقوق السياسية مع الالتزام بالواجبات فى ذات الوقت، كذلك فإن اللا مركزية هى مدرسة لبلورة الاتجاهات والخيارات السياسية ودعم الحياة الحزبية القائمة على الفهم الحقيقى والواقعى لقضايا الوطن وأولوياته. إن الحديث عن تطبيق اللامركزية فى مصر يعنى إحداث العديد من التعديلات الدستورية والقانونية والسياسية التى تعيد صياغة الإطار العام للدولة وهيكل الحكم بشكل يكفل أولا: وجود مجالس شعبية محلية منتخبة بشكل حر ونزيه، ممثلة لكل أطياف المجتمع المحلى السياسية والاجتماعية والدينية، ومساءلة أمام المواطنين المحليين، على أن يتم إعطاء هذه المجالس السلطات اللازمة لتوجيه وقيادة العمل التنفيذى على المستويات المحلية المختلفة. ولكى تكون هذه المجالس قادرة على القيام بهذا الدور، لابد من التعديل الجذرى فى شروط عضوية هذه المجالس، حيث لا يجوز أن يكون الإلمام بالقراءة والكتابة هى شرط العضوية، كما لا يجوز أن يكون عدد أعضائها بالمئات حتى يتمكنوا من صنع القرار بشكل كفء وفعال، ولابد من تعديل طريقة انتخابهم حتى تكون هناك ضمانة لقدرتهم على تمثيل المجتمعات المحلية تمثيلا حقيقيا مع إسقاط أكذوبة تمثيل العمال والفلاحين. ثانيا: لابد أن يعاد تقسيم مسئولية تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين من تعليم وصحة وإسكان ونقل ومواصلات وخدمات اجتماعية بين الوزارات المركزية والسلطات المحلية، بشكل يجعل من السلطات المحلية المسئول الأول عن تقديم الخدمات وتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين على نحو يخدم رغباتهم ومصالحهم، التى تحددها مجالسهم المنتخبة بشكل حر ونزيه. إن نقل هذه المسئوليات للسلطات المحلية المنتخبة هو السبيل لتمكين المواطنين وضمان مشاركتهم الحقيقية، وشعورهم بأنهم يملكون مقدراتهم وليسوا مهمشين فى حاجة للرجوع إلى الحكومة المركزية بالعاصمة للتعامل مع كل تفصيلات حياتهم اليومية. إن عملية نقل هذه السلطات تتطلب إعادة هيكلة شاملة للكيانات القائمة على المستويين المركزى والمحلى تتسع لتشمل تركيبة الوزارات القطاعية ووزارات الدولة ذات الأهداف التنسيقية والوظائف الخاصة بكل منها، أدوار المجالس واللجان القومية العليا، التى تتضارب فى الكثير من الأحيان مع أدوار الوزارات، عشرات الهيئات الخدمية والهيئات الاقتصادية، دواوين المحافظات والمراكز والمديريات والإدارات الخدمية. ثالثا: لابد من وجود موازنات محلية مناسبة تمول من مصادر تمويلية محلية ومركزية تتسم بالشفافية والاستمرارية والعدالة، بحيث تمكن المستويات المحلية المختلفة للقيام بأدوارها الجديدة. ولابد أن تطلق أيدى السلطات المحلية فى إنفاق هذه الموازنات بشقيها الاستثمارى والجارى، بما يتفق واحتياجات وتفضيلات المواطنين، كما يجب أن توضع الضمانات الخاصة برقابة المواطنين ومنظمات المجتمع المدنى قبل الجهات الرقابية الرسمية على التصرفات المالية للمجالس المحلية المنتخبة وأجهزتها التنفيذية. رابعا: لابد من وضع إطار قانونى وإجرائى لمكافحة الفساد على المستوى المحلى بالتزامن مع إحداث التعديلات السابقة. ولابد من إنشاء جهات رقابية قانونية وإدارية ومالية يكون شغلها الشاغل مراقبة أعمال السلطات المحلية فى إطار قانون جديد للعاملين فى الإدارة المحلية يمنح الحقوق والسلطات اللازمة لهم، ولكنه يسمح فى الوقت نفسه بالشفافية وتداول المعلومات، كما يضع آليات وعقوبات فعالة لمكافحة الفساد والتلاعب بمقدرات الشعب وأولوياته. إن التعديلات المتعلقة بتأسيس نظام لا مركزى فى مصر هى الاستجابة الحقيقية لمطالب المواطنين التى عكستها الثورة الشعبية خلال الأسابيع الماضية. المواطن المصرى يريد أن يكون جزءا من عملية صنع القرار الخاص بحياته اليومية ومستقبل أولاده، وهو ما تحققه اللامركزية. المواطن المصرى يريد أن يكون كائنا مشاركا قادرا على التعبير عن كل آرائه بحرية، وأن يكون على ثقة بأن هذه الآراء ستكون موضع الاهتمام، وهو ما تعنيه اللامركزية. إن المواطن المصرى يريد أن يكون ممكنا وقادرا على إحداث التغيير عندما يشعر بأن هناك حاجة لإحداث مثل هذا التغيير، وهو ما تضمنه اللامركزية من خلال آلية المجالس المحلية المنتخبة بشكل حر ونزيه. إن المواطن المصرى يريد أن يشعر بأنه المسيطر على مقدراته والمالك لثرواته، وليس كيانا مهمشا مفعولا به، وهذا ما تسعى إليه اللامركزية. أن المواطن المصرى يريد أن يكون مشاركا فى تحديد خيارات وتفضيلات الإنفاق العام من الضرائب، التى يتم فرضها عليه واقتطاعها من دخله وقوت اولاده، وهذا هو أساس اللا مركزية. إن المواطن المصرى يريد أن يكون قادرا على مساءلة المسئولين الذين يقدمون الخدمات الأساسية له والذين قد يحيدون عن مصالح المواطنين لتحقيق مصالحهم الشخصية، وهذا هو جوهر اللا مركزية. وعليه فالشعب إذا يريد ضمن ما يريد لا مركزية النظام.