لا تستقلوا ب«القضاء»الأرجح أنك تعرف أن هناك فارقا كبيرا بين استقلال القضاء والاستقلال به، فالأولى قيمة كبرى تخص المجتمع قبل القضاة، وهى ركيزة أساسية، لأى مجتمع عادل وديمقراطى، وضمانة وحيدة لتنظيم الحياة بين الأفراد والمجتمعات، لكن الثانية مسألة مختلفة تماما، وللأمانة فقد قرأت مصطلح «الاستقلال بالقضاء» لأول مرة عندما صكه المحامى المعروف نجاد البرعى، معلقا على أزمة رفض مجلس الدولة تعيين الإناث، وتفسيره الأمر فى ذلك الوقت على أن هناك من يتخذ من النصوص القانونية التى تكفل استقلال مرافق العدالة ومحاكمها، مسوغا حتى للافتئات على حق المجتمع الأصيل فى إعمال دستوره باعتباره الحاكم الأعلى ولا يفرق أو يميز بين المواطنين بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة. لكن المؤكد أنه يجدر إعادة طرح هذين المفهومين من جديد فى وقت تتجه فيه السلطة القضائية إلى تحقيق غاية طموحها، وتتوج نضالها ونضال المجتمع معها طوال السنوات الماضية بإقرار قانون جديد للسلطة القضائية، يبعد الدولة ممثلة فى وزارة العدل عن شئون القضاة والتقاضى، ويمنح حسبما هو مطروح المجلس الأعلى للقضاء حق ترشيح النائب العام ورؤساء المحاكم، وأيضا التفتيش على القضاة ومحاكمتهم. هذا نضال يصب بالتأكيد فى صالح المجتمع، لكن هناك شعرة رفيعة تفصل بين استقلال للقضاء يمثل عمودا فقريا للمجتمع يستحق أن نبنى عليه دولة النهضة والعدالة، وبين «استقلال بالقضاء» يخصم من هذا الطموح ويحول مجتمع القضاة إلى «جيتو» مغلق، يتولى شئون نفسه كاملة، يتحكم فى موازنته، وتعييناته ومحاكماته ووظائفه، وممارسة الرقابة على نفسه، فيخلق فجوة بين المرفق ومجتمعه تجعل مخاصمة قاضٍ أو ملاحقته، أو التظلم من وكيل نيابة أو حتى من النائب العام، مسألة غاية فى الصعوبة والاستحالة كذلك. أقول ذلك متذكرا «روح القبيلة» التى سادت فى أزمة محاميى طنطا، وأسأل: هل يليق الحديث بكل هذا الطموح عن استقلال القضاء دون إعلان سياسة واضحة فى التوظيف والتعيين من المبتدأ، لا تميز بين المواطنين، ولا تقول «إن مقبول+بيئة قضائية = جيد»، ودون إعلان خريطة طريق واضحة تتضمن الضمانات الكافية التى تحمى أى مواطن إذا ما وجد نفسه فى خصومة ما مع قاضٍ، ودون التطرق للتنظيمات العائلية المهيمنة على السلطة القضائية، وتأثيرها على التقاضى، فى حالة وجود أحد القضاة من هذه العائلة طرف فى خصومة مع مواطن لا ظهر له سوى القانون. أعرف أن نصوص القانون تكفل المساواة، وأن هناك كثيرا من النوايا الطيبة، وأن مرفق القضاء يطهر نفسه بنفسه حين ثبوت الأخطاء، لكن مثلما نريد ضمانات صارمة تمنع تغول أى سلطة على القضاء، نريد مثلها يحمى حق المجتمع، أقلها أن تكون التعيينات بمعايير واضحة تتشارك فيها أكثر من مؤسسة، وليس المجالس القضائية فقط،، والثانى أن تكون هناك جهة محايدة تماما تنظر الخصومات، التى يكون أحد أطرافها عضو فى هيئة قضائية، وإلا فسيكون «استقلالا بالقضاء»..!