اختياراتك تعكس انحيازاتك وقناعاتك، أو على الأقل ترتيب الأولويات فى ذهنك، تلك بديهيات منطقية، حتى فى الأزمات حين يكون الخيار الذى أمامك بين سيئ وأسوأ، يعكس حسمك لذلك أيضا انحيازا وقناعة وترتيبا للأولويات. وحكومة شرف حين ظلت لأشهر تعكف على موازنة عامة، تتحسب للعجز، وتتجه مرة للاقتراض الدولى ومرة للعربى، وتغرقك فى دوامة من التصريحات المتناقضة، والرسائل المتضاربة، ظلت فى حالة اختيار حتى حسمت ذلك بالأمس، بمجرد اعتماد الموازنة العامة. هناك عجز من الواجب خفضه واحتواؤه، وعقب نجاح الثورة وتسلم حكومة شرف الأمور تحت زعم أنها حكومة الثورة، كان هناك أكثر من طرح لاحتواء العجز وتدبير الموارد والنفقات، خاصة مع إعلان الحكومة لكثير من الطموحات فى المجال الاجتماعى من إعانات البطالة ورفع حد الأجور، وإعادة ضبط الخلل فى الأولويات الذى جعل الإنفاق على التعليم والصحة هو الأدنى، إلى جانب التزامات بتحسين أحوال أصحاب المعاشات. تحدثنا عن الضرائب التصاعدية على الفئات الأكثر دخلا، وهو مقترح ظل وزير التضامن الحالى د. جودة عبدالخالق ينادى به وهو فى المعارضة فى صفوف حزب التجمع، وكذلك الضرائب على الأرباح الرأسمالية الناتجة عن تداول الأوراق المالية، وكذلك حملة كوبونات الأسهم فى البورصة، وهى أنظمة ضريبية ليست بدعا أو اختراعات، لكنها موجودة فى الكثير من دول العالم ذات التوجه الرأسمالى. لكن الحكومة أشهرت فى وجوهنا فزاعة الانهيار، وهددتنا بهروب المستثمرين والاستثمارات وانهيار البورصة وغير ذلك، دون أن تجيب عن سؤال: ولماذا لم يهربوا ولم تنهر البورصات فى مئات الدول التى تنتهج هذا النهج، لكن أمام التزامها بالبرامج الاجتماعية والالتزام بأهداف الثورة فى تحقيق الكرامة الاقتصادية للمواطن والعدالة الاجتماعية، مرت الأمور، حتى عندما جمدت العمل بقانون الضريبة العقارية، رغم كل التحفظات عليه، إلا أنه كان يستهدف فى المقام الأول الأثرياء الذين خزنوا ثرواتهم فى فيلل وقصور وشاليهات وعقارات، ورأينا فى تحقيقات الكسب غير المشروع الكثير من ذلك، لكن لأن القانون كان «سيئ السمعة» بسبب سمعة الوزير الهارب حاليا الذى خرج من تحت يديه القانون، فبدا أن الأمر تصويب لخطأ، ويمكن أن يعاد هيكلته. لم تقترب حكومة شرف من كل ذلك، لم تحاول تقليص دعم الطاقة، خاصة للمستثمرين والفئات الأكثر قدرة، لم تصنع تقشفا فى إنفاقها المباشر، وأجور مستشاريها، لم تضع سقفا للأجور، لكنها اتجهت مباشرة لإقرار التقشف إلى مستحقات التعليم والصحة وبرامج البطالة وزيادات المعاشات، رفضت كل حل فيه مساس بالأغنياء والطبقات الأكثر قدرة، ومدت يديها دون تردد على مستحقات الفقراء. الموازنة العامة فى صورتها النهائية لا تعكس فقط اختيارا لكنها تعكس قناعة مستمرة منذ كانت «ومازالت» أمانة السياسات تدير الملف الاقتصادى، ضد الفقراء وربما بقدر فج من الاحتقار والتمييز.. وكأن الثورة لم تقم..!