قد يكون للأمريكيين والأوروبيين الذين يشاركون فى حصار الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة أسبابهم ليروا فى خطاب بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل خطوة إلى الأمام، لكن المؤكد أن الرجل كان هو ذاته الذى سبق أن عرقل مسار التسوية السلمية عند توليه رئاسة الوزراء فى العام 1996، فدشن أخطر مشروع استيطانى بجبل أبو غنيم، وعزل القدس، وفتح نفق البراق، ومزق الخليل، فجاء خطابه جديراً بكل ما يمثله من عنصرية واستعلاء ومراوغة. ففى خطابه الذى تأجل مرتين قبل إطلاقه للتأكد من ضبط إيقاعه على شركائه الحزبيين وحلفائه الدوليين، أكد لنا أن جذر الصراع ليس الاحتلال ولكن رفض الإقرار بحق الشعب اليهودى فى دولته الخاصة فى وطنه التاريخى، وأن الزعم بأن الانسحاب يجلب سلاماً مع الفلسطينيين، أو على الأقل يقربه، هو زعم لم ينجح فى اختبار الواقع. أما الخطر الحقيقى فى المنطقة على إسرائيل والشرق الأوسط والمنطقة جمعاء، كما يضيف، فهو اللقاء بين الإسلام المتطرف والسلاح النووى. وأما البشارة فهى أنه يعمل من دون كلل من أجل تشكيل جبهة عالمية ضد تزود إيران بسلاح نووى. لكن لا يستحق نتنياهو براءة اختراع هذا التحليل، فمن قبله لم تستح تسيبى ليفنى من أن تعلمنا أن أزمة المنطقة ليست فى الاحتلال وإنما فى الصراع بين إسرائيل والمعتدلين العرب من ناحية، والمتطرفين من ناحية أخرى. مفاوضات فورية وغير مشروطة وفى دعوته للفلسطينيين، ولقيادة السلطة الفلسطينية للبدء فى مفاوضات سلام «فورية» ومن «دون شروط مسبقة»، وضع نتنياهو سبعة شروط مسبقة تشمل: الإقرار الفلسطينى العلنى والصادق والملزم بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودى، والموافقة على أن تجد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين حلاً لها خارج حدود دولة إسرائيل، وأن تظل القدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل، وأن تكون كل أرض تقع تحت سيطرة الفلسطينيين منزوعة السلاح مع ضمانات أمنية صلبة لدولة إسرائيل تضمن ألا يتمكن الفلسطينيون من أن يدخلوا إلى مناطقهم صواريخ وقذائف، أو أن يقيموا جيشاً، أو أن يغلقوا مجالهم الجوى فى وجه إسرائيل، أو أن يبرموا أحلافاً عسكرية. فضلا عن أن يكون لإسرائيل حدود قابلة للدفاع. أما موضوع الأراضى فيجب بحثه فى التسوية النهائية، وعلى السلطة الفلسطينية أن تفرض النظام فى قطاع غزة وأن تتغلب على حماس، فإسرائيل لن تجلس مع «إرهابيين». أما الالتزامات التى وضعها رئيس وزراء إسرائيل على عاتقه، فهى أن إسرائيل ليس لديها النية لبناء مستوطنات جديدة، أو مصادرة أراض لتوسيع مستوطنات قائمة، بيد أنه استثنى من ذلك النمو الطبيعى للمستوطنات. وكذلك الاستعداد لتعزيز حرية الحركة وحرية الوصول للفلسطينيين من أجل تسهيل حياتهم وازدهار رفاهيتهم، انطلاقاً من أن اقتصاداً فلسطينيا قويا يعزز السلام، ويعزز المعتدلين، ويضعف المتطرفين. لكنه اشترط لذلك أيضاً أن تكون وجهة الفلسطينيين نحو السلام، ونحو مكافحة الإرهاب، وتربية أطفالهم على السلام ووقف التحريض ضد إسرائيل. وهكذا يراهن نتنياهو على استعداده لمفاوضات «فورية» بشروط عجزت إسرائيل عن تحقيقها لعقود، مثل فرض النظام فى غزة، كما يعنى استعداده لمفاوضات غير مشروطة، أن تكون غير مشروطة من جانب الفلسطينيين وحدهم، كما يأتى طرحه للتغلب على حماس دعوة صريحة لإشعال حرب أهلية فلسطينية. والمعادلة التى يطرحها هنا بسيطة وواضحة، فإذا كان حلفاؤه الأمريكيين والأوروبيين يرون الحل فى تأسيس دولة فلسطين فإن من حق إسرائيل أن تحدد مواصفات هذه الدولة، والطريق إليها. «دولة نتنياهو» وفى الأخير تظل «دولة نتنياهو» الموصوفة أدنى كثيراً من معنى الدولة، فهى بلا حدود وبلا سيادة وإن حملت هذا الاسم، وتكاد تكون مساوية تماما لرؤيته التى سبق أن طرحها للحكم الذاتى. كما يظل تحقيقها منوطاً بتخلى الفلسطينيين عن حق العودة والقدس والأمن، وقبولهم باستباحة مجالهم الجوى، وبضمانات دولية بعدم دخول الأسلحة والقذائف وبما يرقى لحصار دولى، على نحو ما طرحته الاتفاقية الأمنية التى وقعتها تسيبى ليفنى مع وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة قبل أيام من انتهاء ولاية الرئيس الأمريكى السابق. وبينما يعيد الحل الاقتصادى إلى الأذهان مصكوكات تاريخية عن «تحسين نوعية حياة الفلسطينيين» بديلا لإنهاء الاحتلال، فإنه يضيف إليه خليطاً من شروط التطبيع الشامل مع الدول العربية، ومكافحة الإرهاب. فهو يدعو زعماء الدول العربية للتعاون مع الفلسطينيين والإسرائيليين لتحقيق السلام الاقتصادى كمقوم أساسى من أجل تحقيق السلام السياسى من خلال تطوير مشاريع قادرة على التغلب على ما تفتقر إليه المنطقة، أو استغلال مزاياها وموقعها الجغرافى. كما يدعو المستثمرين من العالم العربى لمساعدة الفلسطينيين والإسرائيليين على دفع الاقتصاد إلى الأمام. وهو يورد ذلك دون أن يوضح لنا كيف يمكن أن يحقق كل هذا الانفتاح الإقليمى وفى الوقت الذى يستمر فيه الاحتلال وترفع فيه إسرائيل جدرانا من الخرسانة والكراهية العنصرية مع أقرب جيرانها من الفلسطينيين. أما شرط القبول بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودى فهو ينقل الصراع إلى طور جديد يمس حقوق أكثر من مليون مواطن فلسطينى داخل حدود 48، ويفتح أبوابا مواربة من الترانسفير، أو تهمشهم فى صيغ للحكم الذاتى تحرمهم من حقوق المواطنة التى تثير حنق العنصرية الصهيونية، فى سياق استهله حزب «إسرائيل بيتنا» بمشروعه العنصرى تجاه فلسطينيى 48 تحت شعار «لا مواطنة بدون ولاء»، وسبقته إليه ليفنى بدعوتهم للبحث لأنفسهم عن مستقبل آخر. ما أغفله الخطاب لا تقتصر مشكلتنا مع خطاب نتنياهو فيما أورده فحسب، لكن فيما أغفله أيضاً، وأبرزه مرجعية عملية السلام. فعدا إشارة مرسلة عن «التزام إسرائيل بالاتفاقيات الدولية» أغفل الخطاب الإشارة لأى ترتيبات قائمة لعملية السلام، مثل إعلان أنابوليس وخارطة الطريق، أو حتى نتائج مفاوضات أولمرت مع الرئيس عباس، كما أغفل أى إشارة لمبادرة السلام العربية. ولا يعنى هذا افتقادنا لهذه المرجعيات فبعضها يشوبه عوار قانونى، وجور على حقوق الشعب الفلسطينى المشروعة والثابتة وغير القابلة للتصرف، ولكن مشكلتنا هنا أن نتنياهو يريد أن يبدأ من الصفر فى التفاوض حول تأسيس الدولة الفلسطينية بعد عشر سنوات كاملة مما كان يستهدفه الجهد الدولى الرامى لإقامة الدولة الفلسطينية فى العام 1999، كما يكرس ما يسمى ب«الشرعية التفاوضية» بدلا من «الشرعية الدولية» التى تحقق قدرا من التوازن التفاوضى للشعب الفلسطينى فى سياق الخلل الفادح فى موازين القوة. كذلك فإنه على الرغم من محاضرة نتنياهو البليغة عن حبه للسلام وتضحيات إسرائيل من أجله واستعداده للقاء الزعماء العرب فى أى وقت وأى مكان من أجل إقامة السلام، فقد أغفل أى ذكر للأراضى السورية واللبنانية المحتلة. رسائل يحملها الخطاب وفى كل الأحوال يحمل خطاب نتنياهو رسائل متعددة لحلفائه الأمريكيين والأوروبيين تقدم حلولا لفظية لجسر الفجوة بين رؤيته للتسوية، والرؤية الغربية لحل الدولتين دون أن تتخلى عن ثوابت الأيديولوجية الليكودية العنصرية للحل، كما يطمئن أصدقاءه من «معسكر المعتدلين العرب» الذين يعربون عن قلقهم من تعاظم نفوذ إيران الإقليمى والحوار الأمريكى الإيرانى بتأكيد عزمه على المضى فى تشكيل جبهة عالمية لمنع إيران من التزود بالسلاح النووى. لكن أيا كانت قيمة هذه الرسائل وجدواها على المستويين الدولى والإقليمى، تظل صفعة لمعسكر المعتدلين العرب، وتعزز من معسكر الممانعة على نحو لن تجدى فيه التصريحات الإعلامية لامتصاص غضب الرأى العام. وفى هذا السياق لم تكن ردود الفعل الأمريكية والأوروبية مستغربة، على الرغم من التفاوت النسبى، بين الإدارة الأمريكية التى رأت فى خطاب نتنياهو «خطوة كبيرة للأمام» ويمكن أن تضمن تنفيذ المتطلبات الفلسطينية لدولة قابلة للحياة، وبين رؤية الدول الأوروبية الأكثر حذرا والتى تراوحت بين اعتبارها خطوة فى الاتجاه الصحيح، إلى اعتبارها كافية لاستئناف مفاوضات السلام، وتحفظ الاتحاد الأوروبى عليها كخطوة لاستئناف جهود تعزيز العلاقات مع إسرائيل فى إطار الشراكة اليورومتوسطية. وعلى الرغم من أن أبعاد ردود الفعل الرسمية العربية لن تكتمل إلا بمناقشة وزراء الخارجية العرب المقرر اجتماعهم فى 24 من الشهر الحالى، لمناقشة خطاب نتنياهو إلى جانب ما كان مقررا من مناقشة خطاب الرئيس الأمريكى، فقد أجمعت تصريحات المسئولين العرب التى صدرت من معسكر الاعتدال أو معسكر الممانعة على انتقاد الخطاب. وإن تفاوتت حدتها ونقاط التركيز فيها من مسئول إلى آخر. وخلاصة القول قد يثير غضبنا ما جاء فى خطاب نتنياهو من إهانة واستهانة بحقوق الشعب الفلسطينى، لكن ما ينبغى أن يثير قلقنا وانتباهنا هو رد الفعل الفلسطينى والعربى، فعندما تشارك السلطة الفلسطينية ودول عربية فى حصار الشعب الفلسطينى، وعندما ينزلق الخلاف الفلسطينى إلى الاقتتال، وعندما تتحدث وزيرة الخارجية الأمريكية عن تحالف إسرائيلى عربى دون أن يصدر نفى واحد من العواصم العربية، وعندما يكون سقف الخيار العربى هو التفاوض حتى لو تحول إلى «التفاوض من أجل التفاوض». فلن تجدى الكلمات، فطاولات المفاوضات لا تفرز إلا الواقع. ما نتطلع إليه هو تغيير هذا الواقع: إعادة اللحمة للموقف الفلسطينى، والإبقاء على خيار المقاومة، وتحريك عناصر القوة العربية التى نملكها فرادى ومجتمعين من أجل حمل المجتمع الدولى، وفى مقدمته الولاياتالمتحدةالأمريكية، على القيام بمسئوليته فى وضع نهاية للاحتلال وفقا لأحكام القانون الدولى، وحذار حذار من تقديم هدايا التطبيع المجانية وغير المجانية لإسرائيل تحت غطاء دعم سياسة رئيس أمريكى جديد.