الدهشة التى تعترى الكثيرين من كثرة الأسماء الإيطالية فى الاسكندرية اليوم: سان استيفانو، سان جيوفانى، سانتا لوتشيا، سان لوران، كامب شيزار، هذا عدا الأسماء الإيطالية للمهندسين المعماريين الذين صمموا عشرات المنازل ذات الطابع الفينيسى المميز على ميناء الاسكندرية الشرقى، وعشرات القصور، بل والمساجد وأشهرها مسجد أبوالعباس المرسى ذاته، تزول إذا عرفنا التاريخ الطويل بين الاسكندرية وإيطاليا عموما وفينسيا خصوصا الذى دفع العلاقات بين البلدين. لقد اشتغل إيطاليون ومصريون كثيرون على مظاهر التأثر والتأثير بين الاسكندرية وإيطاليا، ولعل أشهر المصريين الذين نذروا علمهم وثروتهم لدراسة هذه العلاقة المعمارى السكندرى د.محمد عوض، له كتاب مهم بالانجليزية عن الإيطاليين والإسكندرية صادر عن مكتبة الاسكندرية سنة 2008، وأيضا الكاتالوج المثير لمعرض فينسيا والشرق بمعهد العالم العربى بباريس عام 2007، الذى يروى تفاصيل يحتاج كل منها لكتاب أسرار العلاقة السياسية والتجارية بين فينسيا وسلاطين المماليك، والتى لم يتورع فيها تجار فينسيا عن مد سلاطين المماليك بالمواد والمعادن التى تسهل صنع الأسلحة فى عز الحروب الصليبية رغم الحظر البابوى.
ويروى الكاتالوج المثير كيف أن المماليك تركوا لفينسيا حماية شواطئ مصر ثم تحالفوا معها ضد العثمانيين تارة وضد الفرنسيين والبرتغاليين تارة حتى تحول البحر المتوسط فى العصور الوسطى إلى بحيرة مملوكية يديرها ويرتع فيها الأسطول التجارى والبحرى الفينيسى. غير أن جل هذه الدراسات قد غفلت جانبا مثيرا من تاريخ العلاقات بين مصر وإيطاليا ربما استمر مطمورا فى غياهب النسيان لولا حادث طريف وقع فى أكتوبر عام 2000 كشف أن أول من فكر فى ربط البحر الأبيض بالبحر الأحمر وليس النيل بالبحر الأحمر كما كان شائعا فى العصور القديمة والوسطى كانوا أهل فينسيا.
ففى سبتمبر عام 2000 طلبت إدارة شركة السويس الفرنسية العالمية ثالث أكبر شركة فى صناعة الكهرباء والطاقة النووية فى العالم، وهى شركة حفيدة للشركة العالمية لقناة السويس البحرية التى أممها جمال عبدالناصر فى 26 يوليو 1956 منى ومن آخرين إبداء الرأى فى لوحة ثمينة تعرضها شركة سوسبى العالمية للمزادات فى لندن، تعود اللوحة لعام 1869 لفنان إيطالى اسمه جولين كالين 1830 1887، وكانت المفاجأة ان اللوحة تمثل تجارا أو سفراء من فينسيا يقدمون لسلطان مصر خريطة توضح بعناية أن الإيطاليين يعرضون على مصر مشروعا لربط البحر الابيض بالبحر الأحمر.
فمن أين أتى كابلان بهذه الفكرة للوحاته التى رسمها ولا شك بمناسبة احتفالات افتتاح قناة السويس فى نوفمبر 1869؟ إن وثائق نوبار باشا التى أهدى جزءا منها إلى مكتبة بلدية فينسيا نكاية فى فرنسا وأرشيف قناة السويس فى باريس، تكشف أن الصراع العنيف بين جمهورية فينسيا شديدة الثراء والقوة ومملكة البرتغال الصاعدة على تجارة الشرق التى أيقن فيها البرتغاليون أن التحالف بين المماليك وتجار فينسيا تحالف أبدى ولم تفلح محاولات البرتغاليين فى تحريض البابا تارة والتجار البنادقة المتدينين تارة أخرى وهنا طلب ملك البرتغال من الرحالة الشهير بارتولوميو دياز محاولة اكتشاف طريق آخر للوصول للصين والهند وإيران دون الوسيط المصرى الفينيسى. وبالفعل دون الدخول فى تفاصيل بعضها شديد الإثارة توصل الرحالة البرتغالى إلى اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح فى أبعد نقطة فى جنوب أفريقيا فى يناير عام 1488 الأمر الذى أصاب التجارة المصرية الفينسية بضربة قاصمة إذ أصبحت القوافل البحرية تدور حول أفريقيا قادمة من أوروبا فى طريقها لمدن البهار والتوابل والأخشاب الثمينة فى آسيا.
وتروى الوثائق الفرنسية أن مصر أرسلت بعثة استطلاعية إلى فينسيا 1506 1507 مكونة من 20 شخصية فى مجالات العلم والتجارة والسياسة، وهو ما يروية السفير مارينز سانود ومن المؤكد أن مشروع تحديث النقل البحرى والبرى عبر المتوسط ثم السويس على البحر الأحمر تم تداوله فى هذه الزيارة، فقد أرسلت البندقية واحدا من سفرائها الأسطوريين إلى مصر وهو دومينيكو تريفيزانو عام 1512 لمقابلة السلطان الغورى وبحث مشروع حفر قناة تربط البحرين الأحمر بالتوسط وهو ما يرويه تريفيزانو فى مذكراته التى خصصها لرحلته فى مصر والموجودة بالمكتبة الوطنية فى باريس.
وبالطبع لم يمهل السلطان سليم الأول العثمانى لا الغورى ولا البنادقة الفرصة لإتمام هذا المشروع الذى كان سيغير وجه التاريخ لو كان قد تم حفر القناة ونحن على مشارف القرن السادس عشر.
يبدو إذن أن الفنانين المصورين لديهم حاسة تاريخية حادة وهو ما جعل جوليو كارلين يرسم هذه اللوحة المرفقة ويمكن للقارئ أن يتخيل المذكرة التى رفعتها لشركة السويس طالبا أن تشترى اللوحة بأى ثمن وهى اللوحة التى يجدها الزائر للمقر التاريخى لشركة السويس فى قلب باريس اليوم.