أمام فرشة الجرائد الشهيرة فى ميدان التحرير، يحرص فوزى عبدالقادر، مستشار التحكيم الدولى على المرور بعم رمضان فارس بائع الصحف المخضرم لشراء احتياجاته اليومية من الصحف، ويرى فى عم رمضان أنه أكثر من مجرد بائع للصحف، إذ يقول: «أعتبره أحد الشهود على الحركة الفكرية والسياسية فى مصر، حتى أن الحركات الثورية كانت تلتقى هنا عند فرشة شيخ باعة الصحف لمطالعة الأخبار والنقاش حولها». يكشف فوزى عبدالقادر ذى الميول الاشتراكية عن بعض أسرار ارتباط بعض مثقفى الثورة بهذا المكان حين كانت يتيح لهم عم رمضان القراءة بطريقة الاستبدال، أى شراء ثلاثة جرائد ثم منحهم ثلاثة أخرى لقراءتها على مدى النهار.. هنا تخترق السياسة عالم بائعى الصحف، ويصبحون شركاء فيها. قد لا يجيد رمضان بائع الصحف العجوز القراءة والكتابة، لكنه استطاع فك طلاسم السياسة من تجربته الحية على أرض الواقع ومن التجول على صفحات الجرائد. «أنا أبيع الصحف منذ أن كان عددها فى مصر لا يتجاوز أربع صحف، اليوم وصل عدد الجرائد الصادرة فى كل صباح إلى أكثر من مائة جريدة». هكذا يصف عم رمضان تجربته باختصار، مؤكدا أنه تنبأ باقتراب الثورة من تزايد حجم مبيعات الصحف المستقلة والمعارضة فى الفترة التى سبقت 25 يناير. أما اليوم وسط صخب الانتخابات الرئاسية فقد ساهم بدور آخر فى الأحداث إذ شارك فى توزيع الدعاية الانتخابية لجاره أبوالعز الحريرى الذى يقطن فى العقار القابع أعلى دكانه «لأنه رجل على قد حاله» على حد تعبيره، وتربطه ببعض مرشحى الرئاسة السابقين علاقة صداقة مثل حمدين صباحى الذى يعشق بساطته عندما كان يجلس على المقهى المقابل لفرشته. هذه العلاقات تأتى فى خلفيتها علاقات أسبق مع كثير من الشخصيات العامة الذين كانوا يحصلون على صحيفتهم من فرشته مثل نجيب محفوظ، وأسامة أنور عكاشة، ويوسف إدريس، ومرتضى منصور، وأيمن نور، وغيرهم.. هذه الخبرة فى قراءة سوق الصحف على مدار سنين لم تضع هباء، هذا ما يوضحه عم رمضان قائلا: «أحد رؤساء تحرير الصحف القومية التى كانت تعانى من انخفاض توزيعها عمل بنصائحى، فارتفعت نسبة التوزيع من جديد.. وأهم ما لاحظته بعد الثورة أن المانشيت الرياضى لم يعد الأكثر جذبا، بل انتزعت الأحداث السياسية الملتهبة أولوية اهتمامات الناس، ونالت الصحيفة مكانة تالية مباشرة لرغيف العيش». يصمت ويبرهن على رأيه قائلا: «أثناء الثورة وعند وقوع أحداث عنف فى وسط المدينة، كانت حافلات التوزيع الخاصة بالمؤسسات الصحفية تمتنع من الولوج للمنطقة، فكنت استشعر تعطش الناس للجريدة ليعرفوا ما يحدث رغم كونهم جزءا من الحدث، لذا كنت أذهب فى خضم هذه الأحداث كى أحضر الصحف بمعاونة أبنائى كى تصل الجريدة لصغار الباعة والزبائن رغم وطيس المعركة».
زمن الممنوعات!
على مسافة غير بعيدة من فرشة عم رمضان يقف الشاب الثلاثينى محمد أبوحتاتة، الذى يعمل هو الآخر بائعا للجرائد أمام فرشة أخرى، حاملا معه كواليس جديدة من عالم توزيع الصحف، يعلق: «أثناء الثمانية عشر يوما التى اشتعلت فيها الثورة وحتى يوم التنحى، كنت أشعر ما يريده الزبون، لذا أحضرت كثيرا من الكتب المصادرة والممنوعة لعبدالحليم قنديل مثل: الرئيس البديل، الأيام الأخيرة، كارت أحمر، لأنى كنت أشعر أن الزبون يريد أن يقرأ فى هذا التوقيت هذه النوعية من المقالات، فكنت أقدم تخفيضا عليها وأبيعها ب15 جنيها بدلا من 25 جنيها. ورغم انخفاض هامش الربح إلى 1.5 جنيه بدلا من 10 جنيهات، لكننى حققت وقتها مبيعات كبيرة تراوحت بين 600 إلى 700 نسخة». كان أبوحتاتة يعمل أيضا فى مجال بيع الكتب على سور الأزبكية.
يستطيع بائع الصحف بدوره أن يلمس التغيرات الفكرية التى تميز مناطق البيع من يوم لآخر وفق طبيعة الأحداث وصعود وهبوط تيارات بعينها. محمود شوقى، بائع عشرينى فى وسط المدينة وهو زميل لأبوحتاتة يعلق قائلا: «فى الأيام العادية، لا أحضر من الجرائد الخاصة للإخوان المسلمين سوى عدد لا يتعد الستين، إذ أقوم ببيع ثلاثين نسخة فى الصباح وثلاثين أخرى فى المساء. لكن فى المليونيات يختلف الأمر، فقد كنت أبيع أكثر من مائتى نسخة بصفة خاصة أيام الجمع المليونية التى يحضرها الإخوان فى منطقة وسط البلد».
هذه الأجواء المرتبطة بعالم وسط البلد، قد لا تختلف كثيرا عن مواقع أخرى، فأحد الباعة فى منطقة الجيزة يشترك مع شوقى فى الرأى ويمضى قائلا: «قد يتهافت الناس على أعداد بعينها من صحيفة لسبب ما، فعندما نشرت إحدى الصحف صورة الطبيبة التى انفتحت عباءتها لتكشف عن جسدها أثناء المواجهات مع الجيش، تكالب القراء على شرائها، واستخدمها بعض الباعة لجذب انتباه المارة بوضعها فى مكان مميز، بل وأكثر من ذلك أن هناك من استغلوا الحدث كى يبيعوها بضعف ثمنها».
فى قلب الحدث
تلك العلاقة بين شريحة من موزعى الصحف، وبعض الجماعات السياسية يرصدها الخبير الإعلامى ياسر جلال، إذ يلفت لنقطة تغيب عن كثير من القراء، ويشرح ذلك: «توجد بعض أسرار المنافسة بين الصحف فى مناطق التوزيع، على سبيل المثال هناك جريدة خاصة وزع مندوبوها مكافآت مالية على بعض الباعة لإظهارها على الفرشة وقدموا هدايا لكبار الموزعين، وهناك صحيفة أخرى شكلت خطرا وقت صدور عددها الأول، فقام بعض مندوبى جريدة أخرى بتوزيع رشاوى على الباعة كى يقوموا بإخفاء أعداد الصحيفة الجديدة لا سيما وأن الصحيفة الأقدم كانت معروفة بعلاقاتها بجهاز أمن الدولة السابق».
مع اشتعال المعركة الانتخابية شكل سباق الرئاسة نهما لدى القراء الباحثين عن الحقيقة والطامحين إلى اختيار المرشح المناسب، وقد لمس باعة الصحف تغير الأنماط الاستهلاكية للمواطن، ولم يعد يختلف المشهد من فرشة فى الجيزة إلى فرشة أخرى فى شارع رمسيس، ويرصد «عماد» الذى يعمل بهذه المهنة منذ 15 عاما ويوزع الصحف فى شارع رمسيس تزايدا فى عدد القراء عقب الثورة، فبعض المهتمين بالأحداث يشترون 7 جرائد يوميا من كل التوجهات: قومية، وخاصة، ومعارضة. ويعتبر عماد أن قراءة الجريدة أصبحت مثل إدمان السجائر، من يعتادها يصعب عليه تركها، رغم وجود المواقع الالكترونية والفضائيات، لذا فهو لا يخشى من البطالة فى المستقبل ويبرهن على ذلك بوجود صحف جديدة تولد كل يوم كى تلبى احتياجات السوق المتعطشة للتربية السياسية، وما تقدمه من مساعدة فى اقتفاء أثر مرشحى الرئاسة عبر الأخبار والتصريحات.
فى هذا الجو المشحون بالسياسة يلعب البائع البسيط دورا خلف الكواليس، وقد يكتوى فيه بنيران السياسة، ويعود رمضان فارس الجالس فى موقعه المميز فى ميدان التحرير ليعلق على هذه النقطة قائلا: «كدت أن أدفع حياتى ثمنا للاستمرار فى توزيع الصحف، وكان أخطرها فى يوم جمعة الغضب، حين كان يتساقط الضحايا على بعد خطوات من مكان الفرشة، فى بعض الفترات تحول الممر المجاور إلى مستشفى ميدانى نرسل إليه الجرحى والموتى». وأثناء لعبة القط والفأر بين المتظاهرين والشرطة والجيش يجد بعض باعة الصحف أنفسهم مشتركين فيها رغما عنهم، فكثيرا ما كان يضطر محمود شوقى جار عم رمضان إلى المبيت فى التحرير أثناء المواجهات المشتعلة كى يحمى فرشته من الدهس والتلف تحت الأقدام، أما عم رمضان فارس فيستوجب عمله أن يكون موجودا تحت أى ظرف من الثالثة صباحا وحتى السادسة مساء. ومع تغير الأجواء بعد الثورة وما تعلمه هؤلاء الباعة من دهاليز اللعبة السياسية، علت صرخات بعضهم من أجل تنظيم صفوفهم لتأسيس نقابة ترعى مصالحهم. عدوى سياسية ربما؟ لكن قد يكون من حق طباخ السم أن يتذوقه.