عرف المصريون امتحانات التجهيزية «الثانوية العامة» فى عام 1887، قبل 125 عاما «بالتمام والكمال»، وقتها كان عدد المدارس الثانوية ثلاث فقط تضم بضع مئات من الطلاب، الآن لدينا 1700 مدرسة ثانوية، وما يزيد على 800 ألف طالب سيؤدون امتحانات الثانوية العامة هذا العام. وحتى 1905 لم تعرف التجهيزية شعبتى العلمى والأدبى، وكانت مدة الدراسة 4 سنوات، منذ ذلك التاريخ، وحتى اليوم شهدت «السنة الأخطر» فى مسيرة التعليم تحولات عدة ما بين تقسيمها إلى شعبتين أو ثلاث، وإضافة مواد اختيارية ومواد للمستوى الرفيع إلى نظام ل«التحسين» وصولا إلى تقسميها إلى مرحلتين كما هو الحال اليوم.
من جديد، طغت الثانوية العامة على سطح الحياة المصرية، واحتلت مساحة معتبرة فى مجالات الشأن العام، بعد أن أقر البرلمان أن تكون الثانوية العامة سنة واحدة فقط، كما كان عليه الحال قبل ثلاثة عشر عاما تقريبا.
وبأنفاس لاهثة تترقب الأسر المصرية ما ينتهى إليه النقاش الدائر الآن فى مجلس الشعب حول نظام الثانوية الجديد، علما بأن هناك مشروعا آخر يقبع فى مجلس الوزراء منذ شهور. فضلا على جدل محتمل حول تطبيق القانون من عدمه، فى حالة حل البرلمان.
يصر النظام السياسى فى مصر على إبقاء امتحان الشهادة الثانوية العامة «هاجس البيت المصرى»، يعيش فيه مسكونا بهمومه، يتضاءل دونه كل شغل أو واجب أو اهتمام مهما بلغ، تعيش الأسرة فيه وبكل أفرادها تفاصيله اليومية بدء من ترتيب الحياة على مقاسه، وانتهاء بتدبير تكاليفه الاقتصادية، مرورا بالتضحية بأى متعة أو ترفيه أو حق، حتى إنجازه أو القضاء دونه.
ومؤخرا انشغلت الأسر المصرية بالنقاش الدائر فى مجلس الشعب، حول إعادة تنظيم الثانوية العامة، وتحويلها من نظام السنتين إلى العام الواحد، كما كان قبل منتصف التسعينيات.
اعترض على الفور خبراء تربيون على مشروع البرلمان، لأنه سيقود البلاد إلى ثورة جديدة، وحير أولياء الأمور والطلاب.. ومازال القرار النهائى ينتظر تصديق المجلس الأعلى للقوات المسلحة ليبدأ التنفيذ.
تبدلات واسعة زادت فيها عدد المدارس من 3 مدارس إلى 1770 مدرسة، ومن بضع مئات من الطلاب فى القرن التاسع عشر إلى ما يزيد على 800 ألف طالب وطالبة، والكثير من الأنظمة وطرق الامتحانات.. تستحق أن نتذكرها الآن بعد مرور 125 عاما من عقد أول امتحان قومى للثانوية العامة فى مصر فى 1887، كان يحضره الخديو توفيق وأولياء الأمور وكبار رجال الدولة والسفراء الأجانب، فى مشهد احتفالى مهيب، وتنشر صور الناجحين فى الصحف فى اليوم التالى.
يرى مدرس التاريخ فى مدرسة الطبرى الثانوية بمصر الجديدة ناصر برقى الحاصل على دكتوراه فى علم المناهج أن السرعة التى يريدون تحويل الثانوية العامة بها، دون استعدادات فى المدارس وإعداد للمناهج وتطوير طرق التدريس «ستؤدى لثورة جديدة فى البلد».
ويتابع برقى: «كنا جميعا أولياء أمور وتربويين ومعلمين وطلابا ننتظر تطويرا حقيقيا للتعليم، لكن هذا لم يحدث، بل كل ما فى الأمر هو العودة لنظام قديم»، ويضيف: «ماتت فى المدارس الأنشطة الهزيلة التى كانت باقية، واختفى الانتظام المحدود للتعليم».
يُذكر أن أعدادا كبيرة من المدارس تعانى ارتباكا واضحا فى عملها، لغياب الطلاب أو حتى المدرسين متعللين بالحالة الأمنية، فيما ترفض إدارات مدرسية كثيرة إقامة أنشطة بدعوى سيطرة السياسة على الوضع العام فى مصر.
ويعلق رئيس مركز الدراسات التاريخية فى مؤسسة الأهرام نبيل عبدالفتاح على ذلك بأنه «مشهد سياسى يتسم بالعشوائية، ورغبة من التيارات الإسلامية لفرض آرائها غير المدروسة على المجتمع».
ويرى عبدالفتاح أن إصدار قرارت تعليمية دون النظر إلى النظم التعليمية فى العالم هو أمر مقصود لتغييب «الحداثة» عن مؤسسات الدولة وأجهزتها وسياساتها، لاسيما التعليمية، التى تدهورت على مدى 30 عاما وأكثر على يد النخبة الحاكمة والمعارضة.
ويقول أستاذ التربية بجامعة عين شمس سعيد إسماعيل على إن معظم نواب مجلس الشعب دخلوا البرلمان لأول مرة، وليس لديهم الخبرة التى تخول لهم أن يفتوا فى أمور التعليم.
ويتابع إسماعيل ما يحزننى فعلا هو أن القرارات الكبرى فى التعليم تؤخذ دون دراسة علمية، ولا حتى بعد أخذ رأى الطلاب وأولياء الأمور والمعلمين.
هذا ما يريده الطلاب، الذين قد لا يهتمون بالسياسة العليا للدولة، ولا فلسفة التعليم، لكن من يعانون فى كل مرة تتخذ فيها القرارات التى تؤثر على حياتهم ومستقبلهم.
يقول الطالب فى الصف الأول الثانوى بمدرسة جيل المستقبل التجريبية للغات بالزاوية الحمراء عبدالرحمن ناصر، «ما حدش بياخد رأينا، رغم أننا أصحاب الشأن، الكل بيتكلم باسمنا من غير ما يسألنا عايزين إيه، أنا قلقان ومتلخبط وشايل الهم، لأنى كنت مرتب نفسى إنى بعد ما أخلص امنتحانات هابدأ دروس بعد شهر، وحجزت عند المدرسين، ودفعت فلوس، وسألت زمايلى اللى دخلوا كلية الهندسة السنة دى، وأخدت خبرتهم، لكن دلوقت حاسس أنى «فأر تجارب»، وكل حساباتى اتلخبطت».
ويتابع عبدالرحمن بالتفصيل: «كنت هيأت نفسى أنى هادرس ست مواد، كل يوم مادة أروح فيها درس، وبعدين أذاكرها، واليوم السابع للمراجعة، وفى سنة تالتة، أخد خمس مواد، لكن دلوقتى مش عارف أعمل إيه فى 9 مواد ولا 11 مادة فى سنة واحدة، ناخد دروس امتى، ونذاكرها امتى، وكمان فى مستوى رفيع».
ويمضى: «كنت أتمنى يطوروا المناهج ويخلوها بسيطة وجذابة زى المناهج الأجنبية، بدل المناهج الغبية التى بندرسها، واللى ما فيهاش حاجة، من علوم الفضاء أو البرمجة أو الاختراعات، أو أى مواد تفيدنا فى حياتنا».
«وبعد كل ده تيجى الامتحانات وما تفرقش بين الطالب الذكى وغيره، لأنها كلها بتعتمد على الحفظ، حتى الأسئلة اللى بيقولوا عنها للتفكير، بنحفظها كلها، وما بنتفاجئش فى الامتحان».
لكن أين تقف المعاناة من هذا الهاجس المصرى، أين هم أولياء الأمور والمعلمون؟
هدية النظام الجديد
بكلمات مركزة لكنها واضحة قال ناصر «بصفتى مدرس أفضل أن تكون الثانوية العامة سنتين، كما هى الآن، لأنها أكثر فائدة لى، لكنى بصفتى ولى أمر لطالب بالصف الأول الثانوى أميل لأن تكون الثانوية عاما واحدا».
ويتابع: «المدرس يستفيد من النظام الحالى (نظام السنتين) لأنه يعطى دروس خصوصية فى عامين، وبالنسبة لأولياء الأمور فهم يفضلون سنة واحدة تخلصهم من الضغط النفسى، والأعباء الإضافية للدروس».
لكن هناك من يرى فائدة من التغيير، حيث يقول الطالب عبدالرحمن «فى مدرسين بيطمنونا، بأن امتحانات أى نظام جديد لازم تكون سهلة، عشان يثبت اللى عملوا النظام أنه ناجح، وده حصل معايا لما دخلت أولى إعدادى، وكانت أول مرة تدرس مناهج جديدة، وكان فى إصرار أنه تنجح تجربة تدريس المواد الجديدة المطورة».
لكن هل ما معنى مناقشة مشروع حول الثانوية العامة فى بلد يعيش تجربة كتابة دستور جديد لم تهدأ الخلافات حوله بعد، فيما تحتدم معركة الانتخابات الرئاسية، وسط أجواء قلق من انتقال أو عدم انتقال السلطة من «العسكر لحكومة مدنية منتخبة؟».
أو بعبارة أبسط على لسان الطالب عبدالرحمن «ليه بيعملوا فينا كل ده؟».
ويحاول ناصر الإجابة عن هذا التساؤل فى قوله إن «بعض الزملاء من المدرسين يفسرون السرعة التى يناقش بها البرلمان مشروع الثانوية العامة، بأنها تهدف لإلهاء الناس عن قضية الدستور، فيما يراه آخرون محاولة من مجلس الشعب للاهتمام بالقضايا الاجتماعية، بعد أداء نيابى مخيب لآمال المصريين، الذين توقعوا اهتماما من النواب المنتخبين بقاضاياهم المعيشية، فيما يقرأوه أخرون على أنه جاء بإيعاز من المجلس العسكرى ليحوز تأييد الرأى العام لبقائه فى السلطة».
ورغم الاجتهاد فى الإجابة فإنها لا تهدئ أسئلة الطلاب ومخاوفهم.
125 عامًا من تاريخ مصر
● دخلت نظم التعليم الحديث لمصر على يد محمد على (باشا) فى عام 1805، عندما أنشأ مجموعة من المدارس تابعة لديوان الجهادية (وزارة الدفاع)، حتى إنشاء ديوان المدارس (وزارة التعليم) عام 1837.
● وحتى نهاية عهد محمد على 1848، كان بمصر مدرستان تجهيزيتان (مرحلة ثانوية) تجهز الطلاب للمدارس العالية (طب وهندسة وإدارة والحربية وغيرها).
● وبعد فترة ركود خلال عهد عباس الأول (18481854)، الذى أغلق المدارس التجهيزية، عاد العمل بها، فى عهد الخديو إسماعيل (1863 1878) الذى أنشأ مدرستين تجهيزيتين، الخديوية بالقاهرة، ورأس التين بالإسكندرية.
● وفى عهد ابنه الخديو توفيق (1878 1892) أنشئت تجهيزية ثالثة فى القاهرة هى التوفيقية، وفى 1887، عقد أول امتحان قومى للمدارس الثانوية، وكان على مرحلتين، الأولى امتحان تحريرى، يسمح للناجحين فيه بدخول المرحلة الثانية وهى اختبار شفوى، كان يحضره الخديو نفسه وأولياء الأمور وكبار رجال الدولة والسفراء الأجانب، فى مشهد احتفالى مهيب، وتنشر صور الناجحين فى الصحف فى اليوم التالى.
● ومنذ يونيو 1887، وحتى الآن (125 عاما) شهد امتحان التجهيزية، ثم الثانوية العامة، تبدلات واسعة، وزادت عدد المدارس من 3 إلى ما يزيد على 1700، ومن بضع مئات فى القرن التاسع عشر، إلى ما يزيد على 800 ألف طالب.
● ولم تكن فى الثانوية شعب علمية وأدبية، حتى عام 1905، عندما أعيد تنظيم التعليم، فصارت سنوات الدراسة التجهيزية أربع سنوات، مقسمة إلى نصفين، يمنح الطالب عند إتمامه السنتين الأوليين شهادة «الكفاءة»، وهى كافية للتوظيف فى الحكومة (وظائف دنيا)، والعامان المتبقان يختار فيهما الطالب بين الشعبتين العلمية والأدبية، وهو أول تخصص فى المرحلة الثانوية.
● وبعد ثلاثين عاما، فى 1938 أعيد تنظيم المرحلة الثانوية، لتصبح الدراسة فيها خمس سنوات، الأربع الأولى الدراسة فيها عامة يمنح الطالب فيها شهادة «الثقافة»، والسنة النهائية مقسمة بين ثلاث شعب علمى وأدبى ورياضة، يحصل الناجحون على «التوجيهية»، وتشترك الجامعة ووزارة المعارف (التربية والتعليم) فى تحديد مواد الدراسة وشكل الامتحان.
● فى 1951، قسمت المرحلة الثانوية إلى ثلاث مراحل، الأولى الإعدادى ومدته سنتان، تتبعه الثانوية الفنية عامين آخرين، وأخيرا عام يختار الطالب فيه ما بين المسار الأدبى والعلمى.
● وعقب قيام ثورة يوليو، فصلت الفترة الإعدادية فى عام 1956، لتصبح مرحلة مستقلة مدتها ثلاثة أعوام، فيما صارت الثانوية ثلاثة أعوام أخرى، يمنح الطالب فى آخر عام شهادتها «الثانوية العامة».
● وفى 1994 أدخل نظام المواد الاختيارية إلى جانب المواد الإجبارية ومواد المستوى الرفيع، كما أصبحت شهادة الثانوية العامة حصيلة امتحانات السنتين الثانية والثالثة معا، وأصبح من حق الطلاب الراسبين والناجحين على السواء فى دور مايو التقدم لامتحان دور ثان لتحسين درجاتهم فى شهر أغسطس.
● وفى 1999 ألغى نظام التحسين، وظلت الشهادة الثانوية العامة حصيلة امتحانات الصفين الثانى والثالث من المرحلة الثانوية، وهو النظام القائم حتى الآن.