المنضدة المستطيلة التى نُصبت فى كافتيريا المدرسة الابتدائية الفقيرة، كانت تحمل «حِلل» الكسكسى ولحم الضأن، وشباب مبتهج يأتى ويروح بينها وبين المطبخ، لجلب زجاجات المياه والفاكهة وأدوات الأكل، بينما أحدهم يرحب بالضيوف ويستعجل زملاءه أن يهمّوا، وآخر يمسك بكاميرا صغيرة، يصور الحاضرين حينا، ويطلب التصوير بجانبهم حينا وهو يبتسم ابتسامة واسعة، وفى الخارج وقفت سيدات مسنات جميلات بالزى التقليدى القبائلى وألوانه الزاهية، فى قرية «تيزى هبل»، ترحبن بنا وعلى وجوههن ابتسامات تدعو للحياة. لو أن فنانا تشكيليا قرر رسم لوحة تحكى رحلة الجزائر، لربما اختار هذا المشهد يقبض به على قلب القصة، ولكانت فى الخلفية جبال يحتلها اللون الأخضر، محتضنا بعض البيوت البسيطة، تصل إليها عبر طرقات ضيقة صاعدة، سمّاها «مولود فرعون»، ذات يوم، «الدروب الوعرة»، وفى الأفق، رغم الحرارة المرتفعة نسبيا، تغطى الثلوج قمم جبال جورجوا، فيصبح بإمكانك الاختيار بين التزحلق على الجليد، أو الذهاب إلى الشاطئ والسباحة.
يسأل أحد الضيوف عمن قام بصنع هذا الطعام، فتجيب سيدة بالعربية: إن أهل القرية قاموا بذلك ترحيبا بكم. وتشرح كيف تهتم قبائل الأمازيغ بين الجبال بالتكافل الاجتماعى.
المدرسة التى نُصبت فيها المنضدة، شهدت طفولة كاتب جزائرى كبير، ومناضل معروف، أرّخ «لمعركة الجزائر»، والقرية التى تقع فوق أحد الجبال، كانت خاتمة رحلة بديعة، برفقة وترشيح الناقد والشاعر شعبان يوسف، لحضور الملتقى الدولى «مولود فرعون.. مفكر وشهيد ورفقاؤه»، الذى أقامته وزارة الثقافة الجزائرية والمركز الوطنى للبحوث فى عصور ما قبل التاريخ برئاسة حاشى سليمان، احتفاء بذكرى الكاتب والمناضل الجزائرى «مولود فرعون»، الذى جاء استشهاده، فى مفارقة عجيبة، قبل استقلال الجزائر بأربعة أيام، عندما تسمع أهل المكان، الذين رافقونا فى زيارة لمقبرة «فرعون»، يرددون أمامنا كلمتى «ابن الفقير» عنوان الرواية التى كتبها «مولود» عن قريته، فتلمس مدى نجاح حقيقى لكاتب يلقى هذا الاحتفاء من بسطاء جسّدهم وكتب عنهم، نجاح لا يضاهيه تكريم أو جوائز عالمية.
فى البداية تجد نفسك أمام ثقافة فرنسية خالصة، لدرجة تجعلك، وأنت بعاصمة بلد عربى، تجلس فى قاعة المكتبة الوطنية الجزائرية، مضطرا لوضع سماعات الترجمة، لكنك بعد قليل تتفهم الأمر، فهذا الأداء ليس تصالحا مع الاستعمار، بل إنه طغيان المستعمر، واجتهاده فى محو الهوية الجزائرية عبر نحو 130 سنة. بعد قليل تلمس العبء الذى يحمله عدد من المثقفين الجزائريين للملمة الهوية، وحماس بعضهم لفكرة أن الأجيال الجديدة نفضت عنها سيطرة الفرنسية، وباتت تتحدث العربية، والدليل فى رأى الكاتب الجزائرى المعروف رشيد بوجدرة، هو أن توزيع الصحف المكتوبة بالعربية بدأ يفوق توزيع مثيلاتها بالفرنسية، غير أن هناك من يرى ضررا فى القضاء نهائيا على الفرنسية.
ستة أيام، مليئة بالتفاصيل، محفزة للمشاعر، حتى تتصور نفسك أمام الكمبيوتر، وأصابعك تجرى وحدها على لوحة المفاتيح، تفرّغ ما تحتقن به، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فما تحتقن به يحتاج إلى صفحات، تحتار فيما تكتب، عن بائعى البلح القريبين من ساحة الشهداء، الذين يشعرون أنك مصرى، فيحتفون بك ويؤكدون أننا أخوة، بعد معركة افتعلها تافهون بسبب مباراة كرة قدم، لم يصل عدد ضحاياها لربع ضحايا مباراة بورسعيد؟، معركة سمتها وزيرة الثقافة الجزائرية خالدة تومى بأنها «معركة الأرجل» وهى تداعبنا بحفاوة، أم عن شجن الحضور أثناء مشاهدتهم الفيلم التوثيقى «الثورة الجزائرية فى الصحافة المصرية» إعداد سوسن يوسف، أو دهشة شعبان يوسف عندما رأى انبهارك بالتلفريك، وحديثه عن: «أهمية أن تكون تليفريكيا»؟، كان يومها مبتهجا بعدما وجدنا ديوانه الأول «مقعد ثابت فى الريح» بإحدى مكتبات العاصمة، وفرحة البائع عندما رأى صاحب الديوان فى مكتبته.
تضحك ليلا وأنت تتذكر ركضكم فى شارع «دودج مراد»، بعد مداخلة شعبان فى الملتقى، محاولين اللحاق بمحال الهدايا قبل أن تغلق أبوابها، برفقة «حنين عمر»، الشاعرة الجزائرية، صاحبة الهوى العراقى، التى ترى أن المنجز الشعرى النسائى لا يوجد به من ترتقى لتقف رأسا برأس أمام درويش والسياب وأمل دنقل. تلك الفتاة التى سطونا على وقتها وأخذت تقطع الجزائر العاصمة ذهابا وإيابا من أجل أصدقاء مصريين تراهم للمرة الأولى، حاولت تعريفنا أنه علينا النزول إلى السوق مبكرا؛ لأن المحال والمقاهى تبدأ فى غلق أبوابها بعد الخامسة، تأثرا بأيام الإرهاب وحظر التجول، ولكن لا حياة لمن تنادى، كنا ننزل متأخرين، وتنهمك هى فى محاولة إيجاد محل مفتوح، كانت تبدل علينا مع الدكتور على شكشك، المثقف والملحق الطبى الفلسطينى صاحب الروح الرائقة، تتركنا فى فندق «الجزائر سان جورج» البديع آخر النهار، وتتصل بوالدها فيأتى لأخذها بسبب أزمة كبيرة فى المواصلات، وفى المساء يأخذنا على شكشك بسيارته الصغيرة، إلى السهر مع الدكتور مصطفى ماضى، فى مكان شذّ عن قاعدة الإغلاق مبكرا. لن أنسى كيف أصررت، كطفل، على التقاط صورة عند تمثال الأمير عبدالقادر الجزائرى، الذى كنا نميز اسمه صغارا فى أغانى الراى، وساحل البحر الذى يشبه شاطئ الإسكندرية، ونصب الشهداء، تراه زاهيا فى أضواء الليل، والمدينة التى تتدفأ فى أحضان الجبال، سعيدة بزوار جاءوا يحيون ذكرى الكاتب الشهيد، وسمحت لهم بزيارته عند قبر تغطيه الورود والمحبة والتقدير، رحلة قادها حاشى سليمان بعبائة عربية أضفت عليه مسحة صوفية وهو يقف بخشوع أمام المقبرة، وعلى وجهه ارتياح مختلط بإرهاق تنظيم مؤتمر ناجح، ملىء بالباحثين والشهادات المهمة، مدينة أدهشها وجود ترجمة مصرية لكتاب «يوميات معركة الجزائر»، فاهتم المهندس «على مولود فرعون» بأخذ النسخة الوحيدة من شعبان يوسف لتصويرها، راح يجول به بين حضور المؤتمر، مقابل قلق مشروع من شعبان على نسخة الكتاب النادر.
وفى عشاء اليوم الأخير، أجبت عن الأسئلة بأكثر مما طرحتها، الكل مهتم بما يحدث فى الساحة السياسية المصرية، «ماذا بعد؟» إذا وصل الإسلاميون للحكم، كيف حال العلاقة بين المسلمين والأقباط؟، حجم قبول أداء البرلمان لدى الشارع المصرى؟، من صاحب الفرصة الأكبر بين مرشحى الرئاسة...إلخ، كانت ليلة حافلة، مشحونة بمشاعر المحبة، قام حاشى سليمان يسلم بروح اللقاء الأول، قال لشعبان: «سلمولى على أم الدنيا»، وشعبان قاوم دموعا قريبة، ووعده بأن سلامه سوف يصل. لم يسمع الاثنان موظف الاستقبال فى الفندق، الذى التقطت أذناه صوت حنين عمر وهى تسلّم علىّ وتجرى لتلحق بأبيها المنتظر فى الخارج، التفتت وقالت: «إلى اللقاء فى القاهرة»، فانتفض موظف الاستقبال بيننا وقال مشوحا: «القاهرة.. خذونى معاكم».