يعيش المصريون حالة غير مسبوقة من الإحباط الجماعى. هذه مسلمة أساسية من مسلمات الواقع المصرى، تؤكدها المعاينة اليومية لهذا الواقع، بقدر ما يوثقها «انفجار إبداعى» تشهده مصر فى الأعوام الأخيرة، يتمثل فى كم غير مسبوق من الأعمال الفكرية والأدبية والفنية المخصصة بالكامل تقريبا لرصد مرارات هذا «الإحباط الجماعى»، والتحذير من تفاقمه وتحوله انفجارا يأتى على كل ما هو أخضر أو يابس فى بر مصر. العنوان الرئيسى لهذا الإحباط هو «غربة المصريين» فى بلد «لم تعد بلدنا»، حسب التعبير الذى شاع لدرجة لم يعد معها يثير القدر الذى يستحقه من الصدمة بل والرعب على مستقبل الوطن. ما سبب هذه الحالة من البؤس الجماعى؟ أهى مجرد «غفلة» من عموم المصريين عما فى حاضرهم من إشراق، أو «قلة صبر» على ما سيأتى به الغد حكما من خيرات؟ بعبارة أدق، هل هناك أساس واقعى وعلمى لهذا الشعور المزمن «بالإحباط» والغربة فى «بلد لم تعد بلدنا»؟ لا يمكن اختزال الإجابة عن هذا السؤال فى الحديث عن قضية الديمقراطية، على أهميتها الشديدة. فحالة الإحباط والغربة هذه لم يعرفها المصريون فى عقود سابقة، لم تكن بأية حال من الأحوال أكثر ديمقراطية، وإن كانت بلا شك أكثر تعبيرا عن مكونات المجتمع المصرى وتمثيلا لها. المسألة ببساطة أن كل دولة ديمقراطية أو دكتاتورية تستند على قاعدة اجتماعية ما، على شرائح اجتماعية تمثلها هذه الدولة وتعبر عنها فى سياساتها وقراراتها، بصرف النظر عما إذا كانت الدولة تتيح لهذه الشرائح حق انتخابها أو حتى إبداء الرأى فى سياساتها!. المثال الأشهر هنا، هو النظم «العسكرية الشعبية» التى عرفتها بعض دول العالم الثالث، ومنها مصر، واستندت على تأييد شعبى واسع بصرف النظر عن عدم استيفائها للمعايير الديمقراطية. السؤال يصبح إذن: ماذا يمثل نظام الحكم فى مصر حاليا؟ ما قاعدته الاجتماعية؟ وهل تعبر عن غالبية المصريين أم تعزز شعورهم بأن «البلد لم تعد بلدهم»؟ بشكل عام يمكن القول إن نظام الحكم فى مصر منذ ثورة يوليو 1952 استند برغم تغييبه للممارسة الديمقراطية إلى قاعدة اجتماعية واسعة نسبيا، قامت على تأييد ثلاث شرائح اجتماعية أساسية، هى: الطبقة الوسطى المتعلمة (من أصول ريفية وحضرية) التى أتاح لها التعليم المجانى وسياسة توظيف الخريجين، فرصا أساسية للترقى والاستفادة من سياسات «دولة الرعاية» التى قامت فى مصر منذ الستينيات، ومن ثم ضمن قدرا معقولا من رضائهم عن الدولة ودعمهم لقيادتها. والشريحة الثانية هى الطبقة العاملة فى المدن، خاصة بعد سياسات التصنيع الواسع والتحسن فى الأوضاع القانونية والاجتماعية والمادية للعمال منذ 1961. مرة أخرى، ضمنت هذه السياسات تأييد هذه الشريحة الواسعة للحكم، حتى وإن بقيت مستبعدة عن إبداء رأيها فى الحكم بالوسائل الديمقراطية المعروفة. والشريحة الثالثة، هى الطبقة الوسطى الريفية المكونة من صغار الملاك والمستأجرين الذين استفادوا من القوانين الثلاثة للإصلاح الزراعى. هذه القاعدة الاجتماعية الواسعة نسبيا أسست لشرعية النظام السياسى المصرى لمدة تقترب من العقود الأربعة، تخللتها أحيانا أزمات اجتماعية حادة، لكنها لم تصل أبدا لحالة الإحباط الجماعى الشامل التى يمكن تلمسها فى مصر اليوم، فما الذى حدث؟ ما حدث ببساطة هو تآكل منتظم وسريع لهذه القاعدة خلال العقدين الماضيين من خلال حزمة من السياسات والتطورات أدت إلى استبعاد كل من الشرائح الاجتماعية الثلاث التى مثلت تقليديا قاعدة الحكم فى مصر. فأوضاع شرائح الطبقة الوسطى المتعلمة تراجعت بشكل لم يعد يحتاج لبرهنة، فى ظل تراجع فرص العمل، وتدهور مستويات الأجور الحقيقية فى العمل الحكومى والمؤسسات الصغيرة للقطاع الخاص. لأسباب عديدة إذن، لم يعد التعليم والتوظف «بالشهادة» فى مصر المدخل التقليدى للترقى الاجتماعى. بالإضافة لذلك، جاء التضخم المزمن الذى تعيشه مصر منذ نهاية التسعينيات، وبشكل خاص منذ عام 2004، ليقوم بوظيفة خبيثة لإفقار كل الشرائح ذات الدخل الثابت الذى تتراجع قدرته الشرائية باستمرار بفعل التضخم، وعلى رأسها شريحة الموظفين من أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة. أما شريحة العمال فى المدن فوقعت بين سندان قانون قطاع الأعمال العام الصادر عام 1991 ومطرقة قانون العمل الموحد الصادر عام 2003، وبينهما تداعيات برنامج الخصخصة والاستبعاد المنظم لعشرات الآلاف سنويا من قوة العمل المصرية تحت عنوان «المعاش المبكر». إلام أدى ذلك؟ إلى تراجع سريع فى «مكتسبات» هؤلاء العمال، من قبيل نسبتهم فى الأرباح التى انخفض حدها الأدنى من 25% إلى 1 %، وفى عضوية مجلس إدارة الشركات التى خفضت إلى عضو واحد بدلا من 50% من الأعضاء، بالإضافة إلى زيادة نسبة البطالة بينهم وانخفاض مستويات أجورهم الحقيقية. ماذا كانت النتيجة؟ إعلان صاخب عن خروج هذه الشريحة من القاعدة الاجتماعية للدولة، اتخذ منذ عام 2006 شكل أكبر موجة من الاحتجاج العمالى تعرفها مصر منذ الأربعينيات. وأما شريحة المستأجرين وصغار الملاك فى الريف، المقدر عددهم مع أسرهم بنحو 5 ملايين مواطن، فقد تكفل باستبعادهم القانون 96 لعام 1992، الذى أشعل الإيجارات فى الأراضى الزراعية، وفتح المجال لطرد المستأجرين الفقراء وأسرهم من أرض عاشوا عليها لأربعة عقود، لتفقد الدولة معهم ركنا أساسيا من أركان قاعدتها الاجتماعية. هذا الاستبعاد المنظم لشرائح اجتماعية كبيرة (تمثل بالحد الأدنى ثلاثة أرباع المصريين)، يضيق قاعدة تأييد الدولة بشكل يمثل تهديدا غير مسبوق للاستقرار، وقيدا ضاغطا على هامش التحرك والمناورة السياسى الذى يحتاجه كل نظام حكم. فلا يمكن لواحدة من أعرق دول العالم أن تقف على قاعدة مكونة فقط من كبار رجال الأعمال والشريحة العليا لكبار الموظفين، ليس فقط لضيق هذه القاعدة، وما تعنيه من أن الدولة المصرية بكل حجمها مطالبة بممارسة بهلوانيات يومية للوقوف فوق قاعدة اجتماعية بحجم «رأس الدبوس»، ولكن أيضا لما تعنيه من تخريج جيوش من الساخطين يبدأون، فى أهون الأحوال، بالشكوى من أن «البلد لم تعد بلدنا»، لينتهوا إلى العنف الاجتماعى الذى غمرتنا تباشيره فى الأعوام الأخيرة، بدءا من العنف الفردى العشوائى مثل قيام فرد بتجريح أو إعطاب سيارة لا يعرف صاحبها، مرورا بالعنف الجماعى العشوائى (حفلات التحرش الجنسى التى باتت سمة لموسم الأعياد فى وسط القاهرة) أو الجرائم الاجتماعية المتنامية ضد «المجتمعات المسورة» التى تقيم فيها الشرائح الاجتماعية العليا على تخوم القاهرة. الخلاصة، أن الضيق المنتظم للقاعدة الاجتماعية للدولة المصرية بات نقطة ضعفها الأساسية. هو المصدر الرئيسى للاحتقان الداخلى، والمدخل السهل لمن يريد التدخل الخارجى فى أحوالها. مطلوب تحرك فورى لوضع النقاط على الحروف ومعالجة الخلل الاجتماعى الفادح فى الواقع المصرى. فلم يعد ممكنا الاكتفاء «ببهلوانيات فوقية» تتجاهل الشرائح الاجتماعية الكبيرة المستبعدة، وتكتفى بالوقوف على «رأس الدبوس» الواقع على «قمة المجتمع». كما أنه من غير المنطقى توقع استمرار «البهلوانيات الشعبية» من جموع الساخطين لمواءمة دخولهم الهزيلة مع متطلبات الحد الأدنى من الحياة الكريمة فى «بلد لم تعد بلدهم» إلى ما لا نهاية. فليس بمثل هذه البهلوانيات تحيا الأوطان!