كم كان المشهد عظيما ومؤثرا فى المؤتمر الأول لجبهة الإبداع المصرى، حيث اجتمع ولأول مرة منذ سنوات عدد كبير من الفنانين والمثقفين ليكونوا على قلب رجل واحد دفاعا عن حرية الإبداع فى واقع ملتهب ومستقبل غامض. وكم تمنيت ألا تمر اللحظة مرور الكرام وألا تكون الصورة مجرد خطب حماسية ووجوه تلتقى وتتعانق، وألا يكون الحضور من أجل تلك الصورة وإثبات حضور.
وبمرور وقت الجلسة الأولى تسلل إلىّ إحساس بأن هناك ثمة تغيير هذه المرة، وأن جموع الفنانين ثاروا وشعروا بخطورة اللحظة التاريخية، وخشوا من تاريخ جديد يقلل من قيمة الإبداع وشكله وحجمه وأفكاره.. ووجدت حماسا كبيرا من المنتج محمد العدل على المنصة يحاول تعديل مسار الهدف كلما انحرف أو انجرف لأبعاد أخرى وكذلك المخرج خالد يوسف.
وجاءت التوصيات لتضع نقاطا مهمة على حروف ولتطالب بأمور سكت عنها كثيرا ودغفلتها الدولة والفنانون معا، فى مقدمتها الحفاظ على التراث الفنى المصرى وتاريخه وإنتاجه بغض النظر عن توجه النظام الحاكم، وهو الأمر الذى فرطنا فيه بأنفسنا، وبدلا من أن نصر على ملاحقة الحكومة لبناء الأرشيف القومى للسينما السينماتيك للحفاظ على ما تبقى من تاريخ مصر السينمائى، ونفس الأمر بالنسبة للتراث الغنائى، فرطنا نحن فى الأرض وبكينا على العرض.. فرطنا فى هذا التراث وتآمرت كل الأطراف بوعى أو بدون وعى، المنتجون باعوا، والورثة باعوا للفضائيات العربية من أجل حفنة دولارات، ولم نع القيمة الأدبية لهذا التراث الفنى الذى أصبح ملكا للآخرين، وتجاهل التليفزيون المصرى كل نداء واستغاثة بعض الفنانين والمنتجين ليكون هو المشترى والحارث الأمين على تراث مصر السينمائى والغنائى، لكنه ظهر صغيرا ضئيلا خائبا خائنا أمام الوفاء للتراث الفنى الوطنى، وضع المؤتمر يده على الجرح الذى نخشى استمرار نزيفه عندما اشار إلى اعتبار ترويع المبدع بالتصريحات المعادية للحريات والملوحة بتجريم الفنون جرمة تستحق المواجهة والتحقيق حتى وإن تم الالتفاف عليها أو تكذيبها وكذا تجري م التعرض للمبدع فى عمله، وهنا إشارة إيجابية لتحريك موضع الفنان من خانة المتهم المضطر للدفاع عن عمله إلى خانة مدعٍ بالحق أو مجنٍ عليه، وهى الحالة الإيجابية التى افتقدناها كثيرا وكان صوت الفنان وهو الصوت الحق غير مسموع، بينما يعلو صوت البطلان وصوت الهدم، وهنا آمل أن يفتح جموع الفنانين جسرا جديدا ممهدا لإخراج طاقاتهم الإبداعية وبحرية لا تعرقلها قيود. ولكن عليهم أيضا تعويض ما فات والالتفاف حول فن حقيقى يمكن معه استعادة اسم مصر وريادتها، ويمكن معه التفاف الجمهور بكل فئاته حوله، وهذا الفن يمكن أن يتسع للجميع من كتّاب ومخرجين ونجوم حالت مفردات السوق لسنوات دون تقديم إبداعهم، وهذه مسئولية شركات الإنتاج والتوزيع وغرفة صناعة السينما التى عليها أن تعيد النظر فى مسألة الاحتكارات وهو ما يكمله شق آخر جاء فى توصية رائعة لجبهة الإبداع، وهى الفصل التام بين أى حزب حاكم وبين مؤسسات الدولة الفنية والثقافية والإعلامية، مع منحها الاستقلالية المالية والإدارية وتكليف إدارتها بوضع خطة إنقاذ وتحفيز وتطوير لأدائها بما يضمن إرساء مشروع فاعل لا يتأثر بتغيير الحاكم ونظامه، وهو الوجه الآخر لمسألة الإبداع أى الشق الحكومى التى عليها الوقوف بجانب مشاريع فنية حقيقية ومتميزة سواء فى السينما أو المسرح أو التليفزيون أو حتى الإبداع الأدبى.
وتأتى النقطة الحاسمة التى توجت بها جبهة الإبداع أحلامها وهى عدم إصدار قوانين رقابية خلال المرحلة الحالية، وتشكيل لجنة مستقلة لفض النزاعات التى قد تنشأ بين المبدعين وأية جهة أو شخوص على أن تضم فى عضويتها برلمانيون وقضاة وممثلو النقابات الفنية ورموز إبداعية أكاديمية وحرة، وقبل كل ذلك وبعده أتمنى أن تفرز جبهة الإبداع المصرى الكبرى على امتداد الوطن فنا خالصا مخلصا للمتلقى، يصنع تاريخا ونهضة وثورة.