سيرة ذاتية جديدة تفسر موت أحد أعظم فنانى العالم من منظور جديد ومغاير وتشكك بقوة فى صحة الرواية المتعارف عليها حول انتحاره تجدها فى كتاب "حياة فان جوخ" للمؤلفين ستيفن نيفيه وجريجورى وايت سميث . فعلى مدى أكثر من قرن اكتسبت النهاية المأساوية لفينسنت فان جوخ نوعا من القداسة حتى أن أحدا لم يجرؤ على التشكيك فى أى تفاصيل تتعلق بهذه الرواية التى باتت أقرب للرواية الرسمية عن الرجل الذى يرقد داخل مقبرته مع شقيقه ثيو جوخ فيما تترامى حقول الحنطة . غير أن الكتاب الجديد لستيفن نيفيه وجريجورى سميث ينطوى على نوع من التشكيك فى هذه القداسة التى اكتسبتها الرواية الرسمية حول نهاية فان جوخ وأيامه الأخيرة بقدر مايمكن أن توصف هذه السيرة الذاتية بأنها "تصحيحية".
ومع أن هناك مايقرب من الاجماع على أن فان جوخ انتحر بإطلاق الرصاص على نفسه فى أحد حقول القمح بعد اصابته بمرض الزهرى وتعرضه لنوبات صرع، فإن المؤلفين ستيفن نيفيه وجريجورى سميث يشككان بقوة فى هذه الرواية الرسمية والمتعارف عليها . وفى هذا السياق يتساءل المؤلفان: "إن فان جوخ كان بصدد استكمال عمل فنى كبير عندما وقع الحادث، فهل يمكن لمن يريد الانتحار أن ينهمك فى عمله؟".
والأهم أنهما يؤكدان أن الطلقة القاتلة اطلقت على الفنان الكبير من مسافة وبزاوية منخفضة ...وإذا كان فان جوخ هو صاحب المقولة التى ستصافحك إن زرت متحفه فى امستردام :"اننى أحرث وأنهمك فى لوحاتى كما يحرث الفلاحون وينهمكون ويعرقون فى حقولهم"، فإن هذه السيرة الذاتية الجديدة عن حياة الفنان الكبير ومماته لم تجاف روح مقولته حيث تحولت إلى مشروع بحثى استغرق عشر سنوات .
وفى غمار هذا المشروع، استعان المؤلفان بمجموعات من الباحثين والمترجمين من اللغة الهولندية ووضع كل ماكتب عن فان جوخ تحت المجهر النقدى ناهيك عما كتبه جوخ ذاته ليظهر فى نهاية المطاف هذا الكتاب الجديد والأقرب للسفر حيث جاء فيما يزيد عن 900 صفحة حول حياة فنان كالعاصفة العاتية .وبهذا الجهد المعرفى المثابر، بدا أن المؤلفين أعادا تركيب القرن التاسع عشر الذى عاش فيه فينسنت فان جوخ واكتسب السرد المزيد من الثراء عبر تناول المؤثرات الاجتماعية والأدبية والثقافية والبيئة العائلية والخلفية التاريخية.
فالأسرة كانت عاملا محوريا فى حياة فان جوخ كما يثبت هذا الكتاب الجديد وخاصة الأب الذى كان مثالا للقسوة والتزمت والأم التى لم تعطه مايكفى من الحنان فضلا عن ضغوط التنشئة فى بيئة كهنوتية .
وفى سنوات المراهقة وبدايات شبابه كان فان جوخ ، كما يؤكد الكتاب، متقلب المزاج مولعا بالكتب وصاحب فورات حماسية سرعان ماتهدأ وتنجلى عن أوهام وهو من وجهة نظر الأسرة فتى غير محتمل ولايبشر إلا بالفشل الذريع .
غير أن الفتى المتقلب والغريب الأطوار استقر على ضفاف الفن وهو فى اواخر العشرينات من عمره وإن كان يرهق شقيقه الأصغر ثيو بطلباته المغالى فيها، كما تشهد رسائل فينسنت فان جوخ لثيو وهى كما ورد فى هذه السيرة الجديدة تصل إلى نحو ألف رسالة وتعد رسائل فريدة فى تاريخ الفن ويتجاوز عددها ما انتجه الفنان الكبير فى عشر سنوات من لوحات وصور.
كانت حياتهما معا لعامين فى باريس كافية ليعرف الشقيق الأصغر ثيو أنه لم يعد يحتمل المزيد من مطالب فينسنت وأن يتنفس الصعداء عندما غادر شقيقه الأكبر العاصمة الفرنسية ليدخل فى نزاع مرير مع الفنان بول جوجان رغم أن بداية علاقتهما كانت تبشر بشراكة فنية مبهرة .وعندما تركه جوجان بسبب تصرفاته التى اعتبرها حمقاء- كان الحادث الشهير وهو قيام فان جوخ بقطع أذنه فيما تمنى شقيقه ثيو الذى كان يستعد للزواج ألا تطول معاناة فينسنت فى هذا العالم .
وكما يكشف الكتاب فعندما قدر لزوجة ثيو فى باريس أن تلتقى بفينسنت شعرت بدهشة من أن هذا الرجل الموفور الصحة هو ذاته الذى لايكف عن الشكوى والتشكى فى رسائله لشقيقه الأصغر طالبا العون والمساعدة، وبعد هذا اللقاء بعشرة اسابيع مات فينسنت فان جوخ .
غير أن ابداعات فينسنت جوخ هى التى بقت فى باريس وغيرها من كبريات مدن العالم حتى أنه فى "اوفر سوا او" الواقعة على مسافة 15 ميلا شمال غرب العاصمة الفرنسية تنتشر على لوحات الاعلانات مستنسخات كبيرة للوحات للفنان الهولندى العظيم الذى ارتبط بالريف تكريما واعترافا بابداعه الخالد كأحد أعظم فنانى العالم .