شهدت قناة «الجزيرة» انقلابا مفاجئا أطاح برئيسها الصحفى المعروف وضاح خنفر، ليحل محله أحمد بن جاسم آل ثانى، أحد أفراد الأسرة الحاكمة فى قطر.. بعد وابل من الشائعات والتكهنات، لم تفصح عن الأسباب الحقيقية لاستقالته. وذلك بعد ثمانى سنوات صعدت خلالها القناة القطرية إلى القمة فى الشبكات الإخبارية العربية. وأضحت بمرور الوقت أهم مصدر من مصادر الأخبار فى العالم العربى. لعبت دورا مهما فى الكشف عن عديد من الأسرار والخلفيات والوقائع، وقدمت تغطية شاملة تميزت بالاستقلالية والسرعة إلى حد كبير لكل الحروب والأزمات العربية.. بدءا من الحرب العراقية وانتهاء بالحرب الأهلية فى ليبيا. وقد جاء نبأ خروج خنفر من الجزيرة سريعا ومفاجئا، واقتصر على رسالة موجزة بعث بها لزملائه فى القناة يتمنى لهم التوفيق. ولا يقدم إيضاحا للملابسات والظروف التى أفضت إلى هذه الاستقالة، التى اعتبرها كثيرون بمثابة هزة عنيفة فى أحد أهم منابر الإعلام الحديث فى المنطقة العربية، والتى اكتسبت بمرور الوقت نفوذا يضاهى نفوذ الحكومات. بل اعتبرها البعض بمثابة الاحتياط الاستراتيجى لدولة صغيرة مثل قطر. إذ أصبحت قادرة على الوصول إلى أقصى أنحاء الأمة العربية فى الريف والحضر، وباتت فى كثير من الأحيان مصدر إزعاج للنظم والحكومات العربية بما كانت تقدمه من أخبار وأسرار وما تنقله من صور ومشاهد واقعية.
ولا ننسى فى هذا الصدد ما وقع أخيرا من خلاف بين وزارة الإعلام المصرية والجزيرة مباشر، التى اتهمت بعدم الحصول تصاريح البث والتدخل فى الشئون الداخلية لمصر، والإفراط فى نقل أدق التفاصيل، واستضافة معلقين ومتحدثين من كل الاتجاهات دون مراعاة للحساسيات، فى عالم عربى يموج بالتيارات والعصبيات والأهواء السياسية.
ولكن المفاجأة الحقيقية فى استقالة خنفر لم تكن فى تولى أحد أفراد الأسرة الحاكمة شئون الشبكة الإخبارية، مما ألغى المسافة بينها وبين حكومة قطر. وهى مسافة كانت «الجزيرة» تحافظ عليها بدرجة كبيرة.. ولكن فيما سربته الدوائر الدبلوماسية الأمريكية عن طريق ويكيليكس عن اتصالات سرية مع الجزيرة. وأذاعت ويكيليكس فى وثائقها نص برقية أرسلها السفير الأمريكى فى قطر عن اجتماع تم بين أحد موظفى السفارة ووضاح خنفر، وطبقا لهذا التقرير فقد سلم الموظف للسيد خنفر نسخا من تقارير سرية قدمتها المخابرات المركزية عن مضمون تغطية الجزيرة للحرب فى العراق عام 2005.
وكانت إجابة وضاح خنفر أن وزارة الخارجية القطرية أبلغته بنص هذه التقارير فى حينها. واقترح عقد اجتماع ثلاثى يضم وزارة الخارجية القطرية لبحث هذا الموضوع، ولكنه اشترط الإبقاء على سرية تعاونه معهم. ورفض التوقيع على أى اتفاق مكتوب حين ضغطت الإدارة الأمريكية لذلك.
وكان المسئولون الأمريكيون كثيرا ما يتهمون الجزيرة بأن تغطيتها الإخبارية لحرب العراق تلهب المشاعر ضد الأمريكيين.
ربما كانت حرب العراق هى نقطة الصدام الأولى والأخيرة بين الأجهزة الأمريكية والجزيرة.. فقد حاولت الجزيرة بعد ذلك أن تتجنب إثارة الحساسيات التى تغضب أمريكا. وقد لعبت الجزيرة دورا مهما فى تغطية أحداث الربيع العربى فى مصر وتونس وكانت أكثر صداما مع الأنظمة العربية عنها مع الإدارة الأمريكية، تسببت فى حدوث أزمات بين قطر ودول عربية عديدة.
فى أحيان كثيرة تظل أجهزة الإعلام العربية الرسمية، وبالأخص فى ضوء سيطرة الإعلام التليفزيونى، عاجزة عن الحفاظ على استقلاليتها بدرجة كافية، إن لم يأتها الضغط من حكوماتها فهو يأتيها من حكومات دول أجنبية ومن سطوة الإعلام الأمريكى بالذات. وقد رأينا من تسريبات ويكيليكس كيف مارست الحكومة ضغوطها بالتدخل فى تعديل أو تصحيح مسار التغطية الإخبارية للجزيرة أقوى الشبكات العربية استقلالية. وانتهى الأمر بخروج وضاح خنفر مستقيلا أو غير مستقيل.
ورغم كل ما يقال أو لا يقال، فقد بقيت الجزيرة حتى الآن منفردة على عرش الفضائيات. وليس من الواضح ما إذا كانت إقالة خنفر وتعيين الشيخ أحمد بن جاسم آل ثانى رئيسا للقناة سوف يغير من توجهاتها أو يؤثر على درجة استقلاليتها التى اكتسبت بالخبرة وطول المعاناة والحفاظ على درجة عالية من المهنية والاحتراف، حيث تزداد حمى التنافس الإعلامى بين الفضائيات ويطغى تأثير الإعلام الأجنبى على مصداقية الإعلام المحلى ونوعيته!