كنت جالسا قبل شهر مع سرجا بوبوفيتش، الناشط الديمقراطى أحد زعماء الثورة التى أطاحت بسلوبودان ميلوسيفيتش عام 2000. وكنا التقينا من أجل التباحث بشأن الثورات التى اندلعت فى أنحاء الشرق الأوسط. قال «كان عاما سيئا لأشخاص سيئين». وذكر متأملا، أنه لم يكن باستطاعة أحد فى أواخر 2010 التنبؤ بأن «يطرد بن على ومبارك، ويركع القذافى وصالح، ويواجه الأسد تحديا خطيرا». بعد ستة أشهر، وأضاف «ولو كنت قد شاهدت ذلك فى كرة بللورية، ثم أخبرت الناس به على شاشة التليفزيون، لحضر أطباء الأمراض العقلية لاقتيادك إلى المستشفى». وفى الأسبوع الماضى، خسر نادى المستبدين عضوا آخر. عندما اقتحم المتمردون الليبيون مجمع القذافى السكنى ومقر السلطة فى طرابلس، فتحول من طاغية عربى زئبقى غريب إلى هارب من العدالة. وقد أصبحت ليبيا أحدث قطعة فى لوحة «بازل» الربيع العربى، التى تنشئ عند ربطها بتونس ومصر، منطقة خالية من المستبدين تمتد فى شمال أفريقيا. ولكن لماذا يتوقف الأمر عند شمال أفريقيا، أو حتى الشرق الأوسط؟ الحقيقة أن عالما بلا مستبدين ربما لا يكون أمرا بهذه البساطة. ولكن أن تصبح ديكتاتورا، لم يكن فى وقت ما بالصعوبة التى عليها اليوم. حيث يقف الآن جيش من الخبراء والنشطاء الغربيين على أهبة الاستعداد لتسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان أو الفساد ككل. كما أنك تعلم أنك لو أصدرت أوامر بحملة قمع عنيف، فمن الممكن التقاط صور لها على جهاز آى فون، وبثها فى أنحاء العالم فى ذات الوقت. كما انقرضت تقريبا الشمولية، وهى التعبير النهائى عن الديكتاتورية. فقد كانت مكلفة للغاية. وكان جوزيف ستالين، وبول بوت، وعيدى أمين ينتمون إلى طبقة القرن العشرين من الديكتاتورية. وليس هناك من يريد أن يتحول بلده إلى كوريا الشمالية أو بورما. وعفى الزمن على الدول البوليسية. وربما لم نعد بحاجة لأن نشعر بالخوف، بعد ذلك، من أصحاب السترات البيضاء. وتخيل، للحظة فوائد عالم خال من الديكتاتورية. حيث لا توجد أنظمة مارقة ترعى الإرهابيين وتوفر ملاذا للقتلة. ولا مزيد من المجاعات فى كوريا الشمالية. وسوف تصبح مكاسب الإنسانية هائلة. ولنا أن نتخيل الإبداع الذى سينطلق من ملايين البشر الذين لم يعرفوا سوى القمع والخوف، وأفضل سبل النجاة منه بمجرد سقوط آخر الطغاة. وسوف يكون باستطاعتنا أن نبنى متحفا للديكتاتورية وليكن فى رانجون حيث نعرض صور المستبدين ونتذكر جرائمهم، ونتساءل كيف يمكن لرجل (وهم جميعا تقريبا رجال) أن يكون بهذه القسوة مع الكثيرين. وهناك مشكلة واحدة فقط: حيث لم ينجم بالضرورة عن نهاية بعض أعتى الديكتاتوريات عالم أكثر حرية! وانتهاء الوضع الذى نزدريه لا يتيح بالضرورة الصعود للديمقراطية التى نأمل فيها. وتوضح بيانات منظمة فريدوم هاوس، أن الحرية السياسية تراجعت عبر أنحاء العالم للعام الخامس على التوالى، وهى أطول فترة تراجع مستمر منذ بدأت المنظمة مراقبة هذه التوجهات فى عام 1973. فضلا عن أن عدد الديمقراطيات الانتخابية التى تعمل بكامل طاقتها، هو الأدنى منذ 1995. وبدلا من ذلك، نشهد صعود شخصيات قوية منتخبة، من أمثال فلاديمير بوتين وهوجو شافيز، الذين يبذلون قصارى جهدهم للحفاظ على واجهة ديمقراطية رقيقة، من أجل إخفاء حقيقة أنهم يركزون السلطة فى أيديهم. وتتناثر أنظمة استبدادية فى الفناء الخلفى لروسيا على سبيل المثال؛ أذربيجان وبيلاروسيا وأوزبكستان يبدو أن قادتها يعتبرون أنهم يضمنون المنصب مدى الحياة. ولحسن الحظ، لم يعد يحكم الصين شخص على غرار ماو، ولكن نجاحها الاقتصادى جعلها من ناحية ما أكثر إغراء للأقوياء والمستبدين المحتملين، الذين يعتبرونها منارة للقوة غير الديمقراطية. وربما تكون بعض بلدان آسيا أكثر مرونة ماليزيا وتايلاند وسنغافورة لكنها ليست دعائم للديمقراطية كما أرادها جيفرسون. ويعانى علماء السياسة الأمرين فى تصنيف العديد من هذه الأنظمة. فهل هى «شبه سلطوية» أو «هجين» أو «ديمقراطية زائفة» أو شىء آخر؟ فى الحقيقة، يكفى القول إنها ليست ديمقراطية. فضلا عن أن التاريخ لا يسير فى خط تقدم مطرد بلا انقطاع. فالانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية حافل بالبدايات الزائفة والتراجعات. وبعض الثورات التى رحبنا بها مؤخرا أدت إلى حكومات لا تدعم المبادئ الديمقراطية التى كانت تنادى بها. ففى جورجيا وقيرغيستان، سرعان ما أظهر القادة الذين قادوا الثورة ووصلوا إلى السلطة، ردود فعل سلطوية تقليدية، مثل خنق وسائل الإعلام الحرة وتقييد الحريات المدنية. وفى أوكرانيا، منعت الثورة البرتقالية فيكتور يانوكوفيتش من سرقة الانتخابات التى جرت فى عام 2005. ولكنه عاد فى 2010 ليفوز فى انتخابات يقول معظم المتابعين إنها كانت حرة ونزيهة. ولا تتمثل المشكلة فى فوزه، فقد كان اختيار الشعب. ولكن منذ وصوله إلى المنصب، تبين أنه نفس نوعية الفتوة المستبد الذى نتذكره، من حيث ترويع جماعات المجتمع المدنى، وتقويض حرية الصحافة وكيل الاتهامات للخصوم السياسييين. ومن السابق لأوانه التنبؤ بما سيسفر عنه الربيع العربى. فقد تعهد الجيش المصرى بقيادة البلاد نحو الديمقراطية، ولكن سلوكه منذ الإطاحة بحسنى مبارك بما فى ذلك الاعتقالات التعسفية، والمحاكمات العسكرية لآلاف المدنيين، وإجراء «كشوف العذرية» قسرا على المتظاهرات لا تدفع للثقة. وبقدر ما ينبغى الترحيب بانهيار نظام القذافى، فإن بناء مجتمع الديمقراطية التعددية على أنقاض نظامه سوف يكون أكثر صعوبة من الزحف على طرابلس. وبطبيعة الحال، يستحق الليبيون الاحتفال بانتصارهم. ففى الأسبوع القادم تحل ذكرى مرور 42 عاما على تولى القذافى الحكم. ولن يتم الاحتفال بذلك اليوم مرة أخرى. وقبل عشرين عاما، كانت أوروبا الشرقية قد أشارت إلى الطريق. واليوم، يظهر الشعب فى ليبيا، وفى أنحاء الشرق الأوسط أنه يمكن تحدى أكثر الطغاة رسوخا، واقتلاعهم فى بعض الأحيان. فماذا عن أفريقيا أو آسيا؟ لن يكون أحد من الجنون بحيث يفكر أن الديكتاتورية يمكن أن تسود مرة أخرى.