أبدأ حديثي بمقارنة واجبة تكرس لبعض النقاط التي تميز بين ثورتي مصر الرئيسيتين في عصرها الحديث، ولا أرمي لخلع قداسة على أي منهما، بل مايشغلني هو ضرورة الانتباه لما يحاك بليل استغلالاً لافتراض العامة أن من يدعي حديثاً باسم الثورة يجب أن يحمل على الأعناق وينساق الجميع خلفه بلا تروٍ ولاتمحيص لما يقول، وهو ماسينتهي حتماً بقسمة حادة بين من يفكرون بلا شعور ومن يندفعون بلا تفكير وكلاهما على باطل. تلك الملاحظات دفعتني لاتخاذ موقفاً وسطاً يتبنى افتراض أن الحقيقة الكاملة لايملكها أحد وأن الهوان هو مصير الشعوب التي ترتمي بأيديها في أتون الأحادية والتخوين، فلا أنساق وراء من يجزم بالشهادة لكل من مات في أيام الثورة، ولا أنقاد لمن يصفهم جميعاً بالبلطجية مقتحمي الأقسام. لاأنادي بالإعدام الجماعي لكل من اتهم بقتل الثوار، ولاأتمنى تبرئتهم جميعاً لشيوع التهمة أو لنقص في التحريات. لا أتهم من يقفون بروكسي طلباً للشرعية والاستقرار بأنهم جماعة أنا آسف ياريس، ولا أرمي كل من يعتصم بالتحرير بالتخطيط لتخريب مصر والعمالة لأجندات خاصة وتمويل خارجي. لا أريد من مجلس عسكري مؤقت وحكومة تسيير أعمال وبلا أساس من شرعية انتخابية تحقيقاً (فورياً) لمطالب اعتملت في نفوس الشعب عشرات السنين، ولا أعطيهم صكاً أبدياً بعدم انتقادهم ولامعارضتهم حتى لو خانوا العهود وتمسكوا بالسلطة. لا أتعاطى ابراهيم عيسى ونوارة نجم، ولا أضع لميس جابر كصورة ال(بروفايل) الخاص بي. أنا المصري الذي يحلم بمستقبل أفضل لابنه الصغير، ولا يطيق العجز عن توفير احتياجاته الآن. لأجلي وأجله اقرءوا وفكروا، وإلى النقاط: ثورة 23 يوليو: قام بها الجيش وايدها الشعب ولم يخون الجيش الشعب بعدها. ثورة 25 يناير: قام بها الشعب وساندها الجيش (ويحاول الشراذم الآن تلبيس الشعب تهمة تخوين الجيش والتحريض على انقلاب داخلي في الجيش على قياداته) ثورة 23 يوليو: قامت على اساس سلمي حقيقي وكانت أشبه باستعراض قوة للجيش المصري ولم ترق فيها دماء ولم تهدم منشآت ولا سجون ولا هرب فيها أشرار المجتمع من محابسهم استغلالاً لانشغال الأجهزة الأمنية - وهو غير مقبول- بقمع الثورة. ثورة 25 يناير: بدأت بمطالب عادلة متكررة ومتفق عليها وتطورت يوماً بعد يوم حتى صارت هبة شعبية عارمة شارك فيها المهمشون والفقراء وصعد فيها الساسة والشباب (المسيبر نسبة للسايبر وورلد) سقف المطالب حتى لامس عنان السماء وانحاز لها جيش مصر العظيم لاعتبارات عدة ليس من بينها على الإطلاق خيانة قادته. ولكن من يصفها بالسلمية يتغاضى عن حقائق ثابتة وواضحة للعيان كاقتحام وحرق 156 قسم ومركز شرطة، وحرق 4000 سيارة ومدرعة شرطة، واقتحام وهدم 11 سجناً ومن ثم تهريب نحو 23000 سجين، وكذلك حرق مجمع محاكم الجلاء بكامله، علاوة على العديد من أحداث العنف التي صاحبت أحداث الثورة وتلتها لتنفي عنها صفة السلمية التي صاحبتها وليس هذا سباباً أوجهه للثورة وإنما توصيفاً دقيقاً لماهيتها. كانت ثورة وكفى ولاداعي لخلع صفات الطهارة والقداسة عليها ولنتعامل مع تداعياتها كما هي دونما تنظير مخل فلا فرق بين قيام الثائرين بارتكاب أعمال عنف وبين ارتكابها من قبل أطراف أخرى لإحراج الثورة، فانهيار المؤسسة الشرطية لم يكن سوى نتيجة سعت إليها الثورة وبالتالي لايصح نحو عجز الشرطة عن الدفاع عن داخل مصر لغير الثورة حتى لا يلتصق بثوبها (الطاهر) ما لا يليق. ثورة 23 يوليو: قامت في ظل احتلال أجنبي ومن نتائجها كان جلاؤه التام عن مصر. ثورة 25 يناير: قامت ومصر حرة والآن يستميت البعض لجلب الاحتلال الأجنبي على غرار نموذج ليبيا تارة بتهديد المجرى الملاحي الدولي بقناة السويس وتارة بتحريض أهالي القتلى على اللجوء للمحاكم الدولية وتارة بإذكاء الفتن الطائفية لتحريض إخواننا المسيحيين على تبني فكرة الحماية الدولية (الإحتلال) والسير على خطى الخائن موريس صادق. ثورة 23 يوليو: قامت لقيام دولة قوية قادرة على حماية داخل وحدود مصر فيصير بوسعها اتخاذ قرارات ثورية تتمكن أجهزة الدولة من تنفيذها قسراً على معارضيها كنزع ملكية اراضي الإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين الفقراء بالعدل وتأميم قناة السويس. ثورة 25 يناير: قامت تحت شعارات الكرامة والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية وانحرف بها البعض لتصير حرباً علنية على جهاز الشرطة المنوط به حفظ أمن الدولة الداخلي وأمان مواطنيها، فصار من أهم أهدافها المعلنة (إعادة هيكلة) جهاز الشرطة ليطالب البعض بوزير (مدني) وينادي البعض بفصل كافة الاختصاصات المدنية عن الوزارة ويصل الحال ببعض النشطاء الموتورين كنوارة نجم للمناداة بعدم وجود وزارة داخلية. وينتشر بين عامة المواطنين -خاصة معتادي مخالفة القوانين منهم كسائقي الميكروباص- الاجتراء على سلطة القانون ممثلة في رجال الشرطة وينتشر بين عتاة المجرمين الاعتداء على أقسام الشرطة لتهريب ذويهم وشركائهم استغلالاً لغل أيدي رجال الشرطة خوفاً من اتهامهم باستخدام (القوة) ضد متظاهرين(!!) كنتيجة حتمية لإغراق البلاد في وهم كبير يجمع كل من مات في أحداث الثورة في سلة واحدة اسمها (شهداء الثورة) رغماً عن ترجيح وجود العديدين ممن قتلوا برصاص رجال الشرطة أثناء محاولتهم اقتحام وحرق الأقسام وتهريب ذويهم وسرقة الأسلحة الميري والأحراز الرسمية من مخدرات ومسروقات وغيرها. كذلك إحراق الأقسام لمحو سجلاتهم الإجرامية، ومعلوم يقيناً أن البينة على من ادعى، فمن يتهم ضباط الأقسام بقتل متظاهرين سلميين عليه على الأقل تقديم قرائن كافية -لا أدلة- بتبرئة ساحة القتلى عن طريق صحائف الحالة الجنائية الخاصة بهم وهو ماثار وهاج وماج ذووهم حين طلبه دفاع الضباط المتهمين وركب بعض الثوار الموجة ليصوروا ذلك وكأنه إهانةللشهداء(!!) ولاأظن أن شؤون العاملين في أية شركة (تهينك)عندما تطلب منك صحيفة الحالة الجنائية. وتجلى ماأقول في واقعتين: الأولى عندما شارك المصريون على اختلاف أطيافهم في الصلاة على 19 من شهداء الثورة الذين لم يتعرف أحد عليهم ليتضح بعدها أنهم من نزلاء السجون، والله أعلم بملابسات مقتلهم فقد يكونون أبرياء قتلهم مخططو الهجوم على السجون لرفضهم الهرب وقد يكونون قتلى رصاصات عشوائية من جهات لم يعلمها أحد حتى الآن، ولكن العبث كل العبث في اعتبارهم شهداء لمجرد ورود جثثهم للمشرحة أيام الثورة. الواقعة الثانية وفاة (آخر شهداء الثورة) والكشف عن صحيفة حالته الجنائية ليتضح أنه مسجل خطر مخدرات ويعترف شقيقه بذلك لكن بالطبع مع اتهام الشرطة بتلفيق القضايا لأخيه وهو المنطقي (قالوا للحرامي احلف!!) ومن الواقعتين نرى أن إطلاق لفظ الشهيد على عواهنه لايجوز لعدم الجزم حتى الآن بملابسات الوقائع التي قضى فيها هؤلاء وخطورة الافتئات على حق المجتمع في العلم بالحقائق وحق القضاء في الفصل بلا ضغوط ووفقاً للوقائع الثابتة وحق المتهمين في الدفاع الشرعي بكافة متطلباته دون التجارة بألفاظ فخمة كلفظ "إهانة الشهداء" تعوق العدالة وتسوق المجتمع قسراً . من كل ماسبق وهو بعض وليس كل مايقال، قد يظن البعض أني أكيل المديح لثورة يوليو وألقي بالاتهامات على ثورة يناير، ولهؤلاء أقول بكل وضوح لا، لم تكن ثورة يوليو بريئة مما علق بها من تشويه لما لايجب أن يشوه من تاريخ ورجالات مصر، لم تكن بريئة من قصر السلطة على سدنتها من العسكر غير ذوي الكفاءة لإدارة دولة بحجم مصر، لم تكن بريئة لاحتكار الحقيقة وتكميم الأفواه المعارضة، لم تكن بريئة حين طوحت بمصر في شتى الاتجاهات الاشتراكية حيناً والرأسمالية حيناً، العروبية حيناً والقطرية حيناً. لم تكن بريئة حين رمت بالشعب في أقصى آفاق التصعيد بلا قوة ولارباط خيل لترمي به في أسفل وادي المنكسرين، ولم تكن بريئة حين انتزعت الشعب من أحضان الانتصار وشموخ العزة بين الأشقاء الصغار لحظيرة التسويات البراجماتية وتجارة التشويه من ذات الصغار، لا لم تكن ثورة يوليو يوتوبيا بشر بها ملائكة كما لم تكن ثورة يناير ولن تكون. جل ما نطمح إليه كمصريين هو أرضاً تسع المحسن والمسيء وتبغي الحقيقة لاتحتكرها لصنف من الناس دون البقية، تقيم عدلاً يستقيم حيناً ويحيد حيناً ولكن لا تعدم الأبرياء على محراب المتعطشين للدماء، تنقاد فيها الأقلية بكرامة لأغلبية قالت كلمتها بلا افتئات على حق الأقلية التي ليس عليها أن تعتنق رأي الأغلبية بل تتعايش معه كفرض عين لنظام ديمقراطي قامت الثورة لأجله بمحاسنه ومساوئه. وبعد، فتلك كانت خواطر مصري غير مسيس يخشى على وطنه الانقسام والسقوط في دوامة الاضمحلال وعليه أوجه سؤالي لكل مصري مثلي لايحمل ضغينة لأحد إلا الذين يخربون هذا الوطن من داخله وخارجه: ألا تستحق تلك الثورة وقفة من الشعب لتطهيرها ممن يشوهونها؟