لا شك أنه كابوس.. لأننى لا يمكن أن أجرى بهذه السرعة فى ذلك الطريق الثعبانى الصاعد إلى أعلى التل، والذى تعتصره من الجانبين تلك الغابة الموحشة فى منتصف الليل إلا إذا كنت أحلم. هو كابوس من نوع ثقيل لا تجد سبيلا لمواجهة رعبه إلا أن تنتفض صارخا: لا..لا!! لأن رحمة الله قد أيقظتك قبل أن تودى بك السكتة القلبية، فتلهج بالشهادة واللهم اجعله خيرا.! كنت محظوظة عندما درست فى مادة علم النفس الإكلينيكى عن نعمة الكابوس التى منحها الخالق للإنسان لتنقذ حياته أثناء نومه العميق، وذلك عندما يتحرك لا شعوريا فيضغط على بعض شرايينه أو يلوى يده بحيث يصعب وصول الدم إلى أحد أعضاء الجسم لعدة ساعات، بما يهدده بالشلل أو بالسكتة..الخ. وبإرسال برقية الاستغاثة إلى المخ الذى يسرع بعرض أكبر عدد ممكن من الصور المفزعة التى تستفز النائم لينتفض فتصل الدماء إلى العضو المهدد فنقول اللهم اجعله خيرا!! وكنت أمنى نفسى أثناء الجرى الذى كنت أتوقف أثناءه لأستند إلى إحدى الأشجار لألتقط أنفاسى أن لحظة نهاية الكابوس قد أوشكت، خاصة أنى أعرف أن المحروسة ليس بها غابات ولا تلال. وكانت السيارات التى تمر إلى جوارى مسرعة تتجاهلنى، لكن إحداها صدرت عنها صرخة طفل صاح بأمه وهو يشير إلى بإصابع مرتعد: «ماما انظرى السيدة الشبح!» ويبدو أننى كنت أثير رعبا لدى من رأونى أكبر بكثير مما كنت أشعر به أنا. المهم أن أتعرف فى هذه الظلمة الموحشة على بيتها، لأنى لم أكن أعرف سواها منذ أتت بى من مطار (روتشيستر) أمس الأول لتسلمنى بيت الأشباح القديم باعتباره محل إقامتى فى قرية ألفريد الواقعة شمال ولاية نيويورك بالقرب من شلالات نياجرا. وقلت لنفسى بثقة أنا لم أسمح لنفسى بترك المحروسة إلا لحضور مؤتمر أو ندوة، وقد رفضت الإعارة إلى دول البترول الغنية. فما الذى أتى بى إلى هنا؟! فلتدركنى رحمتك يا إلهى باليقظة التى تبدأ بالصرخة المعتادة: لا..لا، ثم اللهم اجعله خيرا، والحمد لله أن كان مجرد كابوس. لكننى مضطرة للاعتراف بأنه ليس بكابوس، خاصة أنها ما إن لمحتنى حتى استوت واقفة على قوائمها الأربعة وتقدمت فى اتجاهى ببطء وهى تهز ذيلها دون أن تنبح أو تهاجمنى. فحمدت الله أنها تعرفت على بصفتى زائرة الأمس. مسحت على ظهرها بيد مرتعشة، وأنا أهمس بصوت واجف: شكرا إيزابيل، جود جيرل!! واندفعت إلى الباب أخبطه ببقايا قوتى: افتحى يا بترا.. فلن أسامحك على تسكينى ببيت الأشباح...سأعود للمحروسة فى الصباح وأترك قريتك الموحشة ليسكنها دراكولا مصاص الدماء.!! وفتحت المرأة الباب، لأندفع قائلة: «أريد سريرا الآن فلم أنم منذ أسبوع»، فأطاعت وتراقصت على شفتيها ابتسامة خبيثة وغمغمت: «يبدو أن قصة عبدالله ستتكرر!!». ونمت كالقتيل، وفى الصباح اندفعت إلى الخارج قائلة: «جود باى وشكرا، فقد انقطعت الكهرباء ليلة أمس وهى الليلة الأولى لى فى البيت الموحش، أريد غرفة وسط غرف الطلاب، ردت ولكنك أستاذة ولن تطيقى الإقامة معهم». وانطلقت إلى البيت الموحش أعد نفسى للقاء رئيس الجامعة وعلى الباب حيانى زميلى بوب مايرز قائلا: هاى ألم تأكلك الأشباح بالأمس؟! وعرفت أن الشريرة بترا فيشر قد أبلغت الجميع بأننى أعانى من صدمة ثقافية وسوف أغادر كما فعل عبدالله!! وتحت خيمة هائلة، اتسعت لألفى شخص من الأساتذة والطلاب وأولياء الأمور، وقف رئيس الجامعة ليلقى خطابا مؤثرا عن تاريخ الجامعة العريقة (140) سنة، وأنها تستقبل هذا العام ولأول مرة أساتذة من مصر. والتفت إلى ودعانى للوقوف إلى جواره لتحية الجمهور. صعدت إلى المنصة وقلبى يدق، وأنا أتساءل ترى كم من هؤلاء يعرف قصة الهرب من بيت الأشباح فى الغابة ليلا. سمعت صوتا يقول بأحب لغات الأرض: «مرحبا وحمد الله بالسلامة!» التفت لأرى الدكتور عبدالرحمن ربانة (أستاذ الاقتصاد التونسى) وزوجته زكية يهمسان فى أذنى بطريقتنا الشرقية: «بترا تتعمد أن تطفشك لأنها تكره العرب وقد نجحت قبلك مع عبدالله»، وسألته بلهفة: «إيه حكاية عبدالله ده؟!» أجابنى: «إنه أستاذ جامعة عربى جاء منذ شهرين مبعوثا لهيئة فولبرايت مثلك ونجحت بترا مسئولة السكن فى إثارة فزعه بإسكانه فى بيت الأشباح الذى تسكنينه الآن، حتى تنجح فى إثارة الشائعات عن العرب وكيف أنهم أضعف من أن يتحملوا المسئولية. وبالفعل كان الرجل حساسا للغربة التى عاناها، فغادر قرية ألفريد دون أن يبلغ أحدا واختفى، وقد عانيت وزوجتى من نتائج ما فعله عبدالله، وكم نتمنى أن تبقى لتثبتى صمود المصريين وتثأرى للعرب، فأنت أول أستاذة وأول سفيرة مصرية فى جامعة ألفريد، ونحن نعرف أن البقاء سيكون من عزم الأمور على الرجال فما بالنا بالنساء». فقلت: «سأبقى يا سيدى وسأظل ببيت الأشباح الذى تحرص الشريرة على إبقائى به وسأعلمها درسا لن تنساه». بقيت لمدة سبعين يوما بالبيت الذى هربت منه فى ليلتى الأولى. وكلما لمحت خيبة الأمل على وجه بترا التى انتظرت إعلانى للانسحاب من مهمتى، كلما تأكدت من صلابة لم أكن أظن أننى أتمتع بها. وفى هذه الأثناء استدعيت المسئولين بالجامعة ليفحصوا كيف أن بيت الأشباح لم يكن صالحا للسكنى، فاتخذوا قرارا بحقى فى مغادرته دون أن يسمحوا لبترا بأن تتقاضى منى إيجارا عن شهور المعاناة فى بيت الأشباح.