مساء الحادي عشر من فبراير 2011 أسدل الستار عن واحد من الفصول المثيرة لثورة المصريين وما حوته من مشاهد كثيرة إيجابية ظلت طوال 18 يوما تبهج الناظرين وهي تعرض تلاحما لشعب مصر بعنصريه من الرجال والنساء في ملحمة إنسانية بديعة لم تشهد أجيال كثيرة من المصريين والعرب مثيلا لها. منذ انطلاق الشرارة الأولى لثورة مصر في الخامس والعشرين من يناير 2011 خرج الشعب رجالا ونساء يعبر عن غضبه ويعلن على الملأ مطالبه في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية مؤكدا أنها لن تتحقق بغير سقوط النظام الحاكم وتطهير التربة المصرية من النباتات والحشائش الضارة بمزرعة الوطن الممتدة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، وما يستدعيه ذلك من تطهير مجرى الشريان الرئيسي في جسد مصر من سموم القهر والظلم والطغيان والفساد. كانت المرأة المصرية حاضرة بوضوح في كل مشاهد الاحتجاج والتظاهر، تسكن الخيام ثم تخرج لتهتف لتحفيز الغاضبين على الاستمرار ومواصلة الكفاح من أجل حياة أفضل لشعب مصر. رأيناها تدلي بتصريحات لوسائل الإعلام المحلية والعالمية وتحاور وتتحاور بمنطق ناضج ورؤية واضحة وملمة بقضايا الوطن ورغبة صادقة في مستقبل أرحب لأجيال مصر القادمة. رأيناها أيضا تصرخ في وجوه الطغاة، وتحمي غيرها من المتظاهرين، وتضمد جراح المصابين، وترفع من سقط من شهداء الثورة رجالا ونساء، وتشارك في تنظيف الشوارع وتجميلها، كما رأيناها أيضا تتزوج في ميدان التحرير لتبني بيتا أسريا يحدوه الأمل في مصر المستقبل. مشاهد كثيرة متناغمة شاركت المرأة المصرية في صياغتها وصنعها وإخراجها بسلاسة وطنية وإنسانية بلا تكلف. نعم كانت المرأة المصرية؛ الفتاة والعجوز، العاملة والطالبة والعالمة، والفنانة والمثقفة، وربة البيت، الأم والأخت والابنة والزوجة تشارك في إعادة بناء مصر الجديدة، وتوسمنا خيرا. ولكن بعد فترة لم تطل خرج كثيرون من ذكور مصر بفزاعاتهم وهراواتهم يطاردون نساء مصر ليعيدوهن إلى بيوتهن ثم يغلقونها عليهن بالضبة والمفتاح. لم نعد نرى رجالا ونساء جنبا إلى جنب، بل احتل الرجال ساحات الحوار والسجال، وإن كان المشهد لا يخلو بين حين وآخر من سيدة أو اثنتين وقد دستا وسط الرجال لتحسين الصورة الإعلامية لحلقات الحوار والنقاش. لكن الحقيقة تقضي أيضا أن نقر ونعترف بوجود مذيعات ومقدمات برامج في القنوات التلفزيونية يقمن بمحاورة ومناقشة رجال، لكن دورهن هنا يقتصر على طرح الأسئلة وفتح موضوعات للمناقشات، ولن تجد إلا قليلا من النساء يعرضن قضايا المرأة المصرية ويدافعن عن حقوقها، فقد ولى هذا العهد بعد زحف دعاة الأصوليين والسلفيين وجند الإخوان المسلمين وتصدرهم قافلة الدعاية السياسية، فمنهم من يرفض الجلوس إلى امرأة لتحاوره في التليفزيون، ومنهم من يحرم زواج الأخ المسلم من غير أخت مسلمة تنتمي للفرع النسائي للجماعة، ومنهم من يرى كراهة في تصويت المرأة في الانتخابات، ناهيك عن تجرئها للترشيح لمنصب ما، ومنهم من يروج بين المسلمين لشن غزوات على ديار غير المسلمين لسبي نسائهم والتمتع الجنسي ببعضهن كملك يمين، وبيع أخريات إذا ضاقت ذات اليد. وطبعا يرى كثير من "أنبياء" العصر الحديث أن خروج المرأة للتظاهر وسط الرجال وإطلاق صوتها عمل مشين من الأساس يجلب عليها سخط الله وغضبه، فالمرأة عورة أو نجاسة يجب عزلها، فإن لم تعزل في البيت ففي خيمة سوداء تخفي سوءاتها إذا اضطرت لمغادرة بيتها والخروج إلى الشارع. لذلك لن يكون مفاجئا أو مستغربا أن يخرج علينا من يفتي بأن دية الفتاة التي استشهدت خلال المظاهرات نصف قيمة دية الشهيد من الرجال، هذا إن أفتى أصلا بأحقية أهلها في الدية لأن خروجها في المظاهرات باطل، وما نتج عن باطل فهو مثل ما ترتب عليه، ومع ذلك يصر أولئك المؤمنون الجدد على التأكيد أن الفتاة كانت قد "تحجبت" قبل قتلها، وكأن الحجاب هو بطاقة الدخول إلى الجنة مع غيرها من الشهداء! لقد حصر أولئك مفهومهم للمرأة في منطقتين فقط؛ فرجها ونهديها؛ فالأول وعاء لإمتاع الرجل وإشباع نزواته وشهواته واستقبال بذور نسله- ويا حبذا لو كان من الذكور- والثاني لإرضاع الخلف ما روض الآباء نساءهم عليه من الخنوع والانصياع لما يؤمرن به. للأسف الشديد هذا هو مصير المرأة الذي يسعى جند السلفيين والأصوليين وغيرهم من المتأسلمين لدفعها إليه، لأنهم لا يرون إلا أنفسهم ولا يطيقون وجود غيرهم، وإذا قدر لغيرهم أن يتواجد فليكن أسيرا ذليلا بلا إرادة. إن كرامة الوطن من كرامة المرأة، بل لعلي لا أبالغ في القول بأن المرأة هي الوطن؛ فهي التي خلقها الله مع الرجل من نفس واحدة، وهي الأم التي تحمل وتلد وتربي، والزوجة التي تشارك الرجل في عراك الحياة، وهي الناقلة الأمينة لعادات وتقاليد الشعوب والأمم منذ فجر التاريخ. فكيف تستقيم أمور وطن تقهر فيه المرأة وتسلب حقوقها، وكيف لوطن أن ينهض ويتقدم ونصفه كسيح مكسور الجناح، وكيف لشعب أن يرتقي بين الأمم وأمهات رجاله سبايا وجواري ومحظيات لأمراء التعصب والكراهية والتمييز بين البشر؟ ولننظر حولنا لنرى أي الأمم تقدمت! أهي الأمم التي حبست نساءها خلف جدران عادات وتقاليد يمكن فهم دوافعها من منظور تاريخي وبيئي اختلفت ظروفهما الآن؟ أم هي الأمم التي أقرت حقوق المرأة وأفسحت لها المجال في بناء مجتمعاتها وصياغة مستقبلها؟ قد يتحجج البعض بأن إطلاق الحريات في مجتمعات الغرب وأمريكا يعني الإباحية والانحلال الأخلاقي وانتشار الفاحشة في المجتمعات، بهدف تضييق الخناق على المرأة المصرية، ولكن من قال بأن علينا التخلي عن أخلاقيات مجتمعنا المنبثقة عن عقائدنا الدينية السمحة؟ إن احترام حق المرأة في حياة كريمة تخلو من القهر والابتزاز والتسلط ركن أساسي من عقائدنا الدينية ، مسيحية كانت أو إسلامية، ولا يعني بحال من الأحوال انتشار الإباحية والفجور، لأن تربية النشء على مكارم الأخلاق تعني حسن تربية الذكر والأنثى – الرجل والمرأة- بنفس القدر من الالتزام والموضوعية. لماذا إذن نظل ننظر إلى كل أمور حياتنا من زاوية الجنس والجنس فقط ؟ وأين فضيلة غض البصر وحفظ الفرج للرجال والنساء على حد سواء؟ وأين عقول الرجال التي تتوقف عن التفكير والعمل كلما وقعت أعين أصحابها على وجه أو رأس امرأة، أو تلقفت آذانهم صوت الأنثى؟ بأي منطق إذن نربي بناتنا في البيوت والمدارس؟ هل باعتبارهن ناقصات عقل ودين؟ وهل المرأة المصرية دون غيرها عاجزة عن الاعتداد بنفسها وشخصيتها وعقيدتها فتميل كل الميل إلى الفسوق والفجور والعصيان؟!! والسؤال الآن: هل ترفض الثورة المصرية ثقافة "تغليف - وربما تحنيط - المرأة" عقلا وجسدا، وتصر على وضع نساء مصر في مكانهن الطبيعي الجدير بهن مع الرجال، كي يساهمن في بناء مصر الجديدة على أسس من العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان الذي كرمه الله؟ أم ستكون الغلبة في مصر بعد الثورة لؤلئك المتعصبين والناقمين والكارهين لنصف المجتمع الذين يطاردون التقدم والتطور ويسعون إلى الزج ليس فقط بنساء مصر، بل بالمجتمع المصري بعنصريه في كهوف الجهالة والتخلف والإذلال؟