حين وجدت أن الجامعات المصرية خرجت من قائمة أفضل 500 جامعة فى العالم، فى حين ضمت القائمة ست جامعات إسرائيلية وثلاثا من جنوب أفريقيا، استعادت ذاكرتى تجربة أربعين عاما عشتها فى رحاب الجامعة، طالبا ثم معيدا، ثم صعودا فى درجاتها المختلفة حتى صرت أستاذا بهندسة الإسكندرية. وخلال هذه الرحلة عايشت وشاهدت أحداثا ومواقف لم تستطع السنون أن تمحوها. خلال هذه الرحلة شاهدت فى الجامعة أساتذة وطلابا كانوا طرفا فاعلا فى حركة المجتمع وفى مواجهة نظام الحكم. كما كنت شاهدا على قوة وحيوية المجتمع المدنى فى مصر. الذى جرى التضييق عليه بقسوة فى وقت لاحق. حتى فقد عافيته وأصبح عاجزا ومشلولا فى أحيان كثيرة. إن شريط التجربة طويل وحافل، كما أن دروسها لا تحصى، وإذا جاز لى أن أنوه إلى بعض مشاهدها غير المنسية. فإننى أذكر منها اللقطات التالية: عاصرت كلية هندسة الإسكندرية وأبوابها الثمانية جميعا مفتوحة على مصاريعها، وكذلك باقى كليات الجامعة، والطلاب يتنقلون من كلية لأخرى دون أن يستجوبهم أحد. ومرت السنون وعشت لأشاهد الكلية وأربعة من أبوابها مغلقة بصفة دائمة، وبابان يفتحان نهارا لدخول الأساتذة والعاملين، والبابان الباقيان تحولا إلى معابر حصينة لمرور الطلاب، بل تفتيشهم إذا لزم الأمر. عاصرت الانتخابات الطلابية تجرى بنزاهة وحرية، فى عصر شمولى، ويخصص للأنشطة الطلابية ميزانيات كبيرة، ينفقها الاتحاد المنتخب دون وصاية من أحد. وعشت لأشاهد الانتخابات الطلابية فى الجامعة تحسم بالتزكية فى إدارات أمنية منذ أكثر من عشر سنوات، وينصب على اللجان الطلابية المختلفة أساتذة، أسموهم روادا للأنشطة، وقالوا فى الظاهر إن بيدهم مفاتيح كل شىء فى حين أنه ليس لهم من الأمر شىء. عاصرت الجامعة فى مظاهرات 1968 وحرس الجامعة يذود عن أسوارها وأبوابها ويتصدى لقوات الداخلية التى حاصرتها، مستشعرا قدسية دوره فى حماية الحرم الجامعى ومن يلوذ به من أساتذة وطلاب. وعشت لأشاهد الحرس الجامعى يسمح بدخول البلطجية ومن يسمون جنود الأمن، للاعتداء على الطلاب واعتقالهم، وما مقتل الطالب محمد السقا برصاص الشرطة منا ببعيد. عاصرت، كطالب، مجلس كلية الهندسة وقد ثار لأن طالبا بالسنة الرابعة فقد بصره من جراء قذائف الخرطوش التى استخدمتها قوات الداخلية فى قمع مظاهرات 1968، فشكل لجنة لامتحان الطالب شفاهة، ومنحت لأول مرة درجة بكالوريوس الهندسة لطالب ضرير. ومرت السنون وعشت لأشاهد إدارات الكليات والجامعة تتبارى، ليس فى الدفاع عن الطلاب كما فعل أسلافهم، بل فى فصلهم بتهمة قراءة القرآن فى المدرج بين المحاضرات. عاصرت زمنا كان القضاة يحلمون فيه بكادر مالى مماثل لكادر أعضاء هيئة التدريس. وعشت لأرى القضاة وقد تحسنت أحوالهم فى حين أن أعضاء هيئة التدريس تجمدت رواتبهم تقريبا منذ السبعينيات فاضطروا لأن يتظاهروا ويضربوا عن العمل طلبا لتحسين أوضاعهم. عاصرت زمنا كان رئيس الجمهورية يحرص فيه على لقاء أساتذة الجامعة فى ناديهم، وعشت لأشاهد رئيس الوزراء يأبى أن يقابل ممثلى أساتذة الجامعات المصرية فى مكتبه. بل أصبحت جميع نوادى أساتذة الجامعات مجمدة أو معينا لها مجالس إدارات حكومية، عدا نادى جامعة القاهرة، الذى تأبى وزارة التضامن الاجتماعى إلا أن تلحقه بهم. عاصرت، كطالب دراسات عليا، وقد خصص لكل طالب ماجستير مبلغ مائتى جنيه «تعادل عشرين ألف جنيه بمقاييس اليوم» تكفى الباحث لأن يشترى ويصنع بها ما يلزم بحثه من تجهيزات، وعشت لأشاهد طلاب الدراسات العليا يتحملون تكاليف البحث العلمى بالكامل ولا يبالون بالحصول على المائتى جنيه التى لا تكفى لشراء كتاب بأسعار اليوم. عاصرت حتى زمن قريب الجامعات غير الحكومية لا يتجه إليها إلا من لم يجد لنفسه مكانا فى الجامعات الحكومية، وعشت لأشاهد الكثيرين من المتفوقين الميسورين يتجهون إلى الجامعات الأمريكية والألمانية ومثيلاتها فرارا من ضعف الإمكانات والتكدس والتسيب الذى يضرب أطنابه فى الجامعات الحكومية. عاصرت زمنا كان المتفوقون فيه بلا استثناء يتنافسون باستماتة وبشرف على الفوز بوظيفة معيد بالجامعة. وعشت لأشاهد اعتذار المتفوقين عن تسلم هذه الوظيفة واستقالات للمعيدين وفرار الأساتذة سواء للجامعات الخاصة أو أى جامعات أخرى بالمنطقة أو لخارج الجامعة. وطبقا لرواية وزير التعليم د. هانى هلال، فإن أعضاء هيئة التدريس بهندسة القاهرة «التى هو أحد أساتذتها» تناقص من 1600 إلى 400. عاصرت زمنا كانت درجات الخريج هى المقياس الوحيد لتعيينه فى العمل الذى يريد والمحافظة التى يريد فى قطاعات الدولة، وكان الخريج يملأ استمارة رغبات، كما فى تنسيق الكليات فى الثانوية العامة، يرتب بها المحافظات التى يرغب فى العمل بها. فكان الأوائل يعينون بوظيفة معيد، ومن يلونهم يتم تعيينهم فى الإسكندرية ثم البحيرة ثم المحافظات الأبعد طبقا لدرجاتهم وترتيب رغباتهم. لذلك كان كل واحد يحرص على التفوق قدر ما يستطيع. وعشت لأسمع عن أوائل كليات يقدمون على الانتحار لأن المحسوبية أصبحت المسوغ الأول للتعيين، ولا أقول الوحيد. أ.د. على بركات أستاذ بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية لا تعليق!