فى ظل اللا منطق الذى يحكم معايير التقييم الأدبى، فى مصر وخارجها، يحسب للجوائز الأدبية، تنويهها عن أعمال، يكون من بينها ما يستحق الاهتمام، وهو ما جرى مؤخرا مع رواية «أول النهار» للكاتب سعد القرش، التى حازت بُعيد ثورة 25 يناير، المركز الأول لجائزة الطيب صالح السودانية، واستتبعها طبعة ثانية من الرواية، عن الدار المصرية اللبنانية، بعد أكثر من خمس سنوات من طبعتها الأولى، ومن تجاهلها نقديا. الرواية هى الجزء الأول، والأجمل، من حكاية أوزير، القرية التى أسسها سعد القرش من العدم، فوق الطمى الذى خلفه أحد فيضانات النصف الثانى من القرن الثامن عشر، مبتلعا كل ملامح أوزير القديمة، بناسها، وبيوتها، ومواشيها، وكاتبا النجاة الثانية لكبير القرية الحاج عمران، المشدود إلى نبوءة غجرية، بأنه من عائلة مشئومة، تقصمها كارثة، كل خمسين عاما. كان عمران رضيعا لا يزال، عندما تاهت به الفتاة حليمة، ابنة أحد خدم الدار، وسط قافلة لغجر راحلين إلى سمنود، إلى أن حل بهما الليل، ومن وراءه صبحٌ، وشى بهلاك جميع أهل الدار، لتترمل الصبية، عذراء، على السيد الصغير، وما يفصل عمريهما إلا عشر سنوات. بعد خمسين سنة أخرى، فُتح المشهد على عمران وهو يلعن أشباحا، ويقذف السماء بحجر، غير منتبه، وهو يستعيد نبوءة الغجرية التى آن موعدها، إلى تحيات مارة، ظنوا أن به مسا من جنون. وبالفعل لم تخلف النبوءة موعدها، وقضت على أهل عمران كافة؛ زوجتيه، وابنتيه، بمن فيهم العروس التى كانت تفصلها ساعات عن رجلها الجديد، وجميع أهل القرية، التى غشيها الفيضان، ولم ينج إلا حليمة وعمران، ومؤقتا ابنه مبروك، وهوجاسيان العبد وابنته هند، إذ كانوا فى سمنود يكملون «شوار» العروس القتيلة. بزواج مبروك من هند ابنة هوجاسيان، على مضض من أبيه، ينكشف الجزء الثانى من نبوءة نفس الغجرية، وهى كون عمران: «سيكبر وحيدا، ولن يعيش له ولدان معا»، ثم نبوءةٌ مستقلة عن هند التى يموت كل من رآها عارية. جرى ذلك مع أمها عقب ولادتها، ومع المملوك الذى كان يتلصص على جسدها وهى تستحم فى الترعة، وصولا إلى عريس الليلة الواحدة، الذى تحطم رأسه بعد زواجهما بليلة حب، وحزن، وفاجعة لن تنسى. وكانت ليلة عوتب فيها الموت بمرارة، فاستباقا لما لم يكن يظنه مبروك نهايته، نظر إلى السماء، و«تساءل عن معنى الموت.. عن ضياع بلد بكامله، فى لحظات غضب لفيضان أحمق، يلتهم العابد والعاصى.. عن غياب عروس فى الطمى، قبل أيام من تحقق حلمها بالزواج.. عن انطفاء فرح أمها بزفافها، بل عن عدم تمكن هذه الأم من الحزن، على عروس ماتت بلا عزاء. ولعن حياة تأتى فى لحظة نشوة، وتذهب عبثا. يأتون من عدم، ويذهبون إلى عدم، فلماذا لا يُعفون من هذا العناء؟». وقبله قالت هند: «إنها الليلة حزينة، حزنا لم تعرفه ولم تجربه من قبل؛ فلأول مرة يغمرها اليتم بمرارته». رحل مبروك، ملقيا بالدار الجديد قطعة من الحزن المقيم، وعداوة من عمران تجاه «ابنة العبد»، لم تخففها حتى وصية ابنه بها، إلى أن علم بامتداد مبروك فى رحم هند، عبر توءمين هما سالم وعامر، أحدهما سيشبه أباه حد تطابق الوجه، والزواج من ابنة أحد الرعايا الفقراء، والموت كذلك عشية الزفاف، مستنبتا وجعا جديدا فى الدار، وعداوة قديمة تجاه هند لأنها من طالبت الولد بتقصى أثر أخيه، الذى اختطفه أحد جلابى الرقيق، عقب معركة التخلص من رجال الباشا الظالمين، وسيشبه سالم أباه أيضا فى ترك ولد، ستحوطه كل نساء البيت بالرعاية، فيشب ضعيف الهمة. أما عامر الذى أخطأت بلطة الجلاب روحه إلى روح أخيه، فسيهيم على وجهه لأكثر من ربع قرن، يتحول خلالها إلى ولى، وحشاش، فهو ك«زير نساء» أغرت فحولته امرأة ذات خيمة، وبغل نفر خارجها، وخلع أوتادها، فحضر جيرانها، بأن تباركه وليا، وأشاع عنه جيرانها الصلاح والتقوى، فزاد مريدوه، وتناقل الناس كراماته، وتهافتت عليه النساء يهبنه أنفسهن، ولكى لا تتعذب روحه لحظة خروجها، مثل روح أخيه الذى مات فوق ظهره، دون أن يدرى.. لجأ إلى الحشيش، للإفلات من الألم، متمنيا أن يأتيه الموت وهو نائم أو سكران، إلى أن عثر عليه «على الله القهوجى» المكلف بالبحث عنه، وعاد به إلى جده، بطل الرواية التراجيدى، ليلتقى فى اليوم نفسه بصفية ابنة الحلبى، التى منعت عنه نفسها قبل 25 عاما، ويكون له منها ولدان، تضعهما وتموت، ومن قبلها حليمة ثم عمران، فيتهم عامر رضيعيه بالقتل، ولا يستعيد فرحته إلا بزواجه من الأرملة المغربية «زهرة»، التى رعت ولديه، وتلهى بها عن أوزير وفلاحيها، الذين حال بينه وبينهم، منصور ابن على الله القهوجى، بعدما استغل تلهيه وسيطر على القرية. وانتهى إلى هنا نهار القرية، وبدأ ليلها الذى ستحكيه الرواية التالية لسعد القرش «ليل أوزير»، لكن ستظل «أول النهار» العمل الأحب لكاتبها من سابقه ولاحقه، كما وشى لصديقه الشاعر محمود قرنى، قبل أسابيع، فى الحوار الذى نشرته جريدة القدس العربى اللندنية، ووشى له أيضا، كم كان يتمنى لو ظلت أحداث الرواية عائمة بلا زمن، مبديا ندمه على التاريخ الوحيد الذى ذكره فى الرواية، فوشى بزمانها، وهو موت كبير المماليك «محمد بك أبوالدهب» فى سبعينيات القرن ال18. فى نفس الحوار قال القرش عن روايته إنها «تمتد زمنيا لحوالى مائة سنة من الكوارث والموت والأوبئة والاحتلال الوطنى والأجنبى»، لكن هذا لا يعنى أن أوزير كانت مدينة للأشباح، بل طابقت وصف الناقد عبدالرحيم مؤدن فى كونها «قريةٌ بحجم العالم». فبين كل موت والذى يليه، كانت القرية تُنحت فوق الطين، وتُستنبت فيها حياة، عبر بيوت، وحقول، وبوابات حصينة، لصد الغاصبين، وأسواق صغيرة، وزيجات وأبناء، وأحلام، ما مكنها عبر مائة عام هى دورة حياة عمران، أن تتصدى للملتزمين من رجال الباشا، فى معركة فاضت بعدها روح سالم، وعندما جاء دور المحتل الفرنسى، أدت أوزير دورها بإخلاص كاد يقضى على كبيرها الجديد عامر. حيواتٌ متقطعة، وموتٌ متربص، عبر نبوءات، وطواعين، وحب قاتل، ووشايات، بطنت صفحات الرواية بهَم، أجزم أن سيُبكى من يقرأه، ستدفعه لغة سعد القرش شديدة الشاعرية والقصدية أن يفعل، وسيبقى زمنا، قبل أن ينتزع من تفاصيله، شخوص وأمكنة وحواديت الرواية ليعيدهم إلى الورق، بينما ستظل «أوزير» قرية المائة عام، والأجيال المتواترة، والمصائر، كما ظلت «ماكوندو»، قرية ماركيز، التى بنى فوقها «مائة عام من العزلة»، نصف أسطورة لا تملك إلا أن تصدقها، وتحب عالمها، الذى ضمن حكايات قلائل، لم يتوسل أرصفة وسط البلد، ومقاهيها، ومهمشيها، مفرطى الفحولة، والعجز. هى حكاية الكون، المجتزئة، من تاريخ أو سيرة «بلاد تخرج إلى النهار».