يوم 9 سبتمبر من عام 1881، ترسخت العقيدة الوطنية للجيش المصرى فى العصر الحديث.. فى هذا اليوم تقدم أحمد عرابى باشا (الأميرالاى) مع مجموعة من زملائه إلى الخديو توفيق حاكم مصر بعدة مطالب، وهى: ترقية الضباط المصريين، وعزل رياض باشا رئيس مجلس النظار (رئيس مجلس الوزراء)، وتشكيل مجلس نواب من نبهاء الأمة المصرية، وتعديل القوانين العسكرية بحيث تكون هناك مساواة بين كل الموظفين بصرف النظر عن الجنس والدين والمذهب، وتعيين ناظر الجهادية (وزير الدفاع) من أبناء مصر حسبما تقرر القوانين العسكرية، وزيادة عدد قوات الجيش المصرى إلى 18 ألفا. رفض الخديو توفيق مطالب عرابى وقال: «هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائى وأجدادى، وما أنتم إلا عبيد إحساننا».. رد القائد المصرى الفلاح عرابى بمقولته التاريخية الشهيرة: «لقد خلقنا الله أحرارا، ولم يخلقنا تراثا أو عقارا، فوالله الذى لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم». فيما بعد، رضخ الخديو توفيق لمطالب الجيش، حين رأى التفاف الشعب حول عرابى، ومن أسف أن لغة هذا الوقت وصفت أول ثورة مصرية فى العصر الحديث بأنها «هوجة عرابى»، واستخدمها بعض الأدباء والإعلاميين وبعض الفنانين، كمادة للسخرية، فظلموا بذلك رجلا وطنيا، وضابطا شجاعا وقف أمام الخديو، وعرض مطالبه بقوة وببلاغة. أتصفح بعض ما دونته فى أيام الثورة، وأتوقف عند مقارنة، رأيتها صحيحة بين ثورتين، ففى يوليو 52 تحرك الجيش، وحظى بتأييد الشعب، وفى 25 يناير تحرك الشعب، وحظى بتأييد الجيش. لعلى هنا أكون متأثرا بالعقيدة الوطنية للجيش المصرى ببعض الأحداث.. الأول ثورة يوليو 1952، وصرخة استقلال العرب الأولى ضد الاحتلال والاستعمار التى أطلقت من القاهرة (الشعوب العربية الآن تخوض معركة استقلالها الثانية ضد الحكام المستبدين). وقد كان عبدالناصر ضابطا، قاد حركة عسكرية نجحت بظروف الزمن، والتف حولها الشعب بتأييد جارف، فأصبحت ثورة.. وفى الفترة ما بين حرب 1976، وحرب أكتوبر 1973، وكانت نحو 7 سنوات من النضال، والقتال.. كان جيلنا يعيش ويسمع عن معارك الاستنزاف البطولية، ويرى أقرباء وأصدقاء يستشهدون، ويسمع قصص أبطال يعبرون خلف خطوط العدو فى سيناء، أو يخوضون معارك الطيران الضارية، فوق سماء مصر دفاعا عنها.. فى تلك السنوات «ربط المصريون الحزام»، ولولا تضحيات الشعب، وقوة الجبهة الداخلية، ماحقق الجيش النصر فى حرب أكتوبر التى مازالت مصدر فخر واعتزاز عند كل مواطن. فى ثورة 25 يناير، تجلت وطنية الجيش المصرى، وهو حصن الشرعية، وحامى الدستور.. وقد انحاز لشرعية الشعب، ومنذ اليوم الأول لنزول الجيش إلى الشارع، اختار جانب الثوار ببيان رقم واحد الصادر عن القيادة العامة، قبل أن يتولى المجلس العسكرى زمام الأمور.. وقال البيان الذى أعد يوم 31 يناير وأعلن فى الأول من فبراير: «نحن مع المطالب المشروعة للثوار، لن نوجه طلقة نار واحدة لصدر مواطن». وقد رد الرئيس السابق على هذا البيان بزيارة مركز العمليات بصحبة نجله جمال، للإيحاء بسيطرته، والإشارة إلى أنه جزء من القوات المسلحة، وبالتالى معادلة البيان، وتفريغه من مضمونه. وتعرف أوساط سياسية وحكومية أن الجيش بتشكيلاته القتالية، يخوض الآن تجربة جديدة بوجوده فى شارع يغلى بالثورة، ويعيش حالة فوران، ويطالب فى كل لحظة بكشف فساد ومحاكمة فاسد، واسترداد أموال منهوبة، وفى الوقت نفسه يطالب الناس القوات المسلحة بحماية المنشآت والأمن العام، وحماية المواطنين. وإجراء محاكمات عاجلة، ومعالجة الخلل الاقتصادى وتداعياته الخطيرة جدا، وسرعة العمل من أجل البناء السياسى والاجتماعى للمستقبل، وكل معالجة تمس مصير ملايين ومصير أمة، بجانب أن ما يطبق فى الحروب، سيكون صعبا تطبيقه فى الحياة المدنية وبنفس الإيقاع العسكرى السريع.. بالإضافة إلى حرص القوات المسلحة على العدالة.. وهذا الجيش شديد الانضباط، وهذا الوجود فى الشارع، يفرض على أفراد وعناصر القوات المسلحة تحمل ما لم يعتادوه فى ظل الانضباط العسكرى الذى تفرضه ظروف المعارك فى الصحراء وفى الأجواء. قبل عامين ومع تصاعد أخبار الحالة الصحية للرئيس السابق وأحاديث التوريث، كنت أردد بثقة للزملاء أن قادة القوات المسلحة لايمكن أن يؤدوا التحية العسكرية لجمال مبارك باعتباره القائد الأعلى.. وذلك لسبب واحد، وهو أنهم يرفضون التوريث، ويعلمون أنه مهما صبغت تولية جمال مبارك بأنها إرادة شعبية، فهى إرادة مزيفة وليست شرعية.. وإذا تولى منصب الرئيس خلفا لأبيه، فإن ذلك سيكون اختراقا فجا للدستور.. وكان ذلك موقفا وطنيا ومستمرا من الجيش حتى قرار الرئيس السابق بالتخلى عن منصبه.. ولاشك أنه من الإنصاف القول أن هذا قرار «التخلى». (من قبل عام 1967 كان هناك قرار التنحى) حمى من شرور الانقسام والتدمير، الذى نراه محيطا بنا فى أقصى الشمال العربى بسوريا وفى جنوب الخليج باليمن، وفى دولة مجاورة مثل ليبيا. ويبقى أننا بصدد بدء دولة ديمقراطية، يتمتع شعبها بإرادة حرة، وتجرى فيها انتخابات نزيهة.. دولة القانون والعدالة الاجتماعية، والعدل الإنسانى.. ولأن القانون يسرى على الجميع، ولأن العدل كما العدالة حق للجميع، فكيف يسمح مثلا بظهور ونشر صور لوزراء وقيادات سياسية سابقة بملابس التحقيقات البيضاء فى صحف ووسائل إعلام فيما يحجب وزير الداخلية الأسبق عن عدسات الكاميرات وأعين الناس؟ العدل يسرى على الوزير وعلى الخفير.. على الغنى قبل الفقير.. العدل يسرى على وزير الداخلية الأسبق قبل أن يطبق على وزيرى السياحة والإسكان؟!