فى الوقت الذى اعتقدنا فيه أننا انتهينا من أمر الإدارة السابقة، لايزال أنصار بوش يعيدوننا إليه. وسوف يواصلون ذلك. ومهما كانت محاولات الرئيس أوباما جادة لطى صفحتها، فلن ينجح. ولحين تتحقق الشفافية الحقيقية والمحاسبة الحقيقية، ستظل خفايا كابوس الثمانى سنوات الذى لم يكشف عنها تتبدى شيئا فشيئا، لتشوش على الطموحات الكبيرة للإدارة الحالية. وذلك هو السبب فى اعتبار تراجع الرئيس فجأة عن الإفراج عن صور انتهاكات المعتقلين أيا كانت دوافعه تصرفا أحمق. ففى نهاية الأمر، سوف تُنشر الصور على أى حال، إما عن طريق التسريبات (إن لم تكن قد بدأت بالفعل) أو بسبب استمرار سريان قرار محكمة الاستئناف الفيدرالية الذى يؤيد نشرها. وأؤكد لكم أن هذه الصور لن تكون الدليل الأكثر إثارة للصدمة على خطايا إدارة بوش التى ستتضح بمرور الوقت. على أنه لاتزال هناك الكثير من النقاط المطلوب الربط بين بعضها البعض، وهى لا تقتصر على التعذيب وحده. وفى الأحد الماضى أضافت مجلة GQ، تفاصيل جديدة إلى الملف المتضخم عن الكيفية التى كلفتنا الكثير من أرواح الأمريكيين بسبب فساد وعجز وزارة دفاع دونالد رامسفيلد. والتقرير ليس من وضع أحد المتحمسين، وإنما كتبه صحفى تكساس روبرت درابر، مؤلف Dead Certain، سيرة بوش لعام 2007 التى حظيت بمباركة و«تعاون» الرئيس السابق وكبار قادته. وهو يعتمد على مقابلات مع أكثر من 10 من كبار الموالين لبوش. ويشير درابر إلى أن تصميم رامسفيلد على حماية نفوذه فى البنتاجون، قاده إلى معاداة أكبر حلفاء أمريكا فى العراق، أى بريطانيا وأستراليا، بل وإضعاف وضع جنوده. لكن أهم اكتشافات درابر مجموعة من التقارير اليومية التى وافق رامسفيلد على ضمها إلى تقرير وزارة الدفاع عن أحدث أنشطة الاستخبارات فى العالم «تقرير الاستخبارات حول العالم» «Worldwide Intelligence Update»، وهو تقرير موجز سرى للغاية يوزع فى دائرة صغيرة، ومن بينها الرئيس، وعادة ما يسلمها وزير الدفاع بنفسه باليد للبيت الأبيض. وكانت هذه التقارير تحيى بوش كل يوم بصور ملونة للحرب تعكس الانتصار تعلوها استشهادات من العهد القديم. وعلى سبيل المثال، تقرير مؤرخ فى الثالث من أبريل 2003، قبل أسبوعين من الغزو، مع أولى عمليات «الصدمة والترويع». وقبل ذلك بيومين، فى الأول من أبريل، بدأ البنتاجون على نحو مذعور نشر روايته المضللة، والوهمية، عن إنقاذ المجندة جيسيكا لينش لصرف الانتباه عن أخبار الانتكاسات المزعجة. وفى 2 أبريل أعلن الجنرال جوزيف هور، القائد العام للقيادة المركزية الأمريكية من 1991 1994، فى افتتاحية صحيفة تايمز أن رامسفيلد أرسل أعدادا قليلة جدا من القوات إلى العراق. وهكذا، يحاول تقرير «وورلد وايد انتليجنس أبديت» بتاريخ الثالث من أبريل تخويف بوش بسفر يوشع 1:9 «أما أمرتك تشدد وتشجع لا ترهب ولا ترتعب لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب». (بما فى ذلك إلى المستنقع، كما حدث). ما الذى يرمى إليه هذا؟.. إن رامسفيلد، كما كتب درابر، لا يعرف عنه ادعاء التقوى. وقد كان يتلاعب بالناحية الدينية لتهدئة رئيس كثير الاستشهاد بالإنجيل. لكن تصرفات الوزير لم تكن مداهنة وحسب؛ فقد كان يغامر أيضا بالأمن القومى. وإذا كانت هذه التجميعات الرسمية اليومية للإشارات المرسلة وتصوير الحرب على أنها حرب صليبية قد تسربت، فلابد وأنها عززت الخوف المروع فى العالم الإسلامى من أن أمريكا تشن حربا دينية. وحسبما قال أحد العاملين بالبنتاجون ل«درابر»، فإن التداعيات «ستكون بنفس درجة سوء تداعيات أبوغريب». ومقال GQ ليس الوحيد هذا الشهر الذى يكشف تصرفا سيئا لم يكن معروفا فى السابق لوزارة الدفاع فى عهد بوش. فمنذ أسبوعين فقط، كشف بنتاجون أوباما عن أن تسترا كبيرا على الفساد وقع فى بنتاجون بوش فى 14 يناير من هذا العام أى قبل ستة أيام فقط من ترك بوش لمنصبه. وهذه الواقعة الغريبة وردت فى التايمز وتجاهلها إلى حد كبير المراسلون فى واشنطن المنشغلون بإعداد حفل عشائهم السنوى. ما حدث فى 14 يناير، هو نشر تقرير من جهاز الرقابة الداخلية بالبنتاجون، أعده المفتش العام. وقد طُلب التقرير للرد على فضيحة كشف دافيد بارستو، محرر التحقيقات بالتايمز، النقاب عنها العام الماضى. وكان بارستو قد توصل إلى أن البنتاجون فى عهد بوش كان له شبكة سرية من ضباط الجيش المعتزلين ومسئولى الدفاع، تولوا نشر وجهات نظر الإدارة فى التليفزيون، والإذاعة والصحف المطبوعة باعتبارهم «محللون عسكريون» موضوعيون. وقد عمل كثير من رجال الدعاية هؤلاء، لحساب متعهدى الجيش الذين يتعاملون مع البنتاجون فى مشتريات ببلايين الدولارات. وتلقى كثيرون منهم الثمن، وحصلوا على ملخصات خاصة بالغة السرية لم تحصل عليها الصحافة الشرعية. على أن الرأى العام لم يكن يعلم أبدا عن صراعات المصالح هذه عندما كان هؤلاء «المحللون» يظهرون فى الفترات الإخبارية المسائية لتقديم تقييمات وردية لما اعتادوا أن يطلقوا عليه «الموقف الحقيقى على الأرض فى العراق». غير أن الإدارة الجديدة لا ترغب فى نبش هذا التاريخ مرة أخرى، أكثر من رغبتها فى بحث قضية التعذيب، فما أن ألغى تقرير المفتش العام حول التحليلات العسكرية، حتى أعلن بنتاجون أوباما إغلاق الموضوع. وعندما انكشفت قصة بارستو، طالب أكثر من 45 من أعضاء الكونجرس بإجراء تحقيق. وبدأ المفتش العام للبنتاجون عمله، وأسفر ذلك عن تقريره فى 14 يناير. وهو لم يجد أى مخالفات على البنتاجون. والواقع أنه عندما فاز بارستو بجائزة بوليتزر الشهر الماضى، استشهد المتحدث الحالى باسم رامسفيلد «بتبرئة» المفتش العام ليهاجم مقالات التايمز باعتبارها من قبيل الخيال. ثم أعاد البنتاجون النظر مرة أخرى فى التبرئة، وأعلن فى 5 مايو أن تقرير المفتش العام، وليس ما كتبته التايمز- كان خياليا. وكان التقرير، كما تبين، مليئا بالمغالطات فى رصد الوقائع، ولا يشتمل إلا على قدر محدود من الاستجواب الحقيقى الذى يدين بارستو. وقد ألمح مكتب المفتش العام فقط إلى 8000 صفحة من البريد الإلكترونى استخدمها بارستو كدليل، وأجرى مقابلات مع 7 فقط من 70 من المحللين المختلف عليهم. وبعبارة أخرى، كان التقرير تمويها. وألغاه بنتاجون أوباما رسميا وكانت خطوة لم يسبق لها مثيل بل إنه تم إلغاؤه من على الموقع الالكترونى. تجاهلت عمليات شبكة الأخبار كشف هذه الدقائق الأخيرة التى تستر عليها البنتاجون فى عهد بوش، حيث كان لديهم تحقيق بارستو الأصلى- ولم يكن ذلك بالتأكيد بسبب وقوعهم ضحية لآلة العلاقات العامة الخاصة ببوش. ولكن القصة بالفعل أبعد ما تكون عن حادث فردى. وإذا ما كان بمقدور مكتب المفتش العام للبنتاجون أن يموه على هذه الفضيحة، فلنا أن نتساءل عن الأشياء الأخرى التى موه عليها أيضا. ولنأخذ مثلا واحدا فحسب، ففى 2005، أصدر المكتب نفسه تقريرا حول كيفية تواطؤ بوينج مع «التفاحات الفاسدة» فى البنتاجون بشأن صفقة ناقلات جوية ضخمة قيمتها 30 مليار دولار أمريكى(ألغيت الصفقة فى النهاية). وفى ذلك الوقت، نجد أنه حتى جون وارنر، السيناتور الجمهورى الذى كان له دور أساسى حينذاك فيما يتعلق بالشئون العسكرية، لم يتقبل ادعاء التقرير الذى تم التدخل فى صياغته إلى حد كبير أن رامسفيلد ونائبه بول ولفويتز كانا يجهلان ما أطلق عليه وارنر «أكبر سوء إدارة لمشتريات الدفاع التاريخ المعاصر». وسرعان ما فر المفتش العام للبنتاجون الذى تزعم إصدار تلك البراءة ليصبح مديرا فى الشركة الأم لمقاول آخر فى البنتاجون، وهو بلاك ووتر. لا يمكن للإدارة أن «تواصل السير فحسب» لأنها تفقد السيطرة على الأمر. ومازالت مجموعة المعلقين السياسيين ذوى النفوذ فى الإدارة الأمريكية تكرر العبارة المبتذلة التى تقول إن اتحاد الحريات المدنية الأمريكية و«القاعدة اليسارية» للرئيس يرغبان فى المحاسبة. ولكن هذه هى القضية. فالأمريكيون يعرفون أن حرب العراق لم تنته. والكشف الذى تضمنه تقرير لجنة القوات المسلحة فى مجلس الشيوخ الشهر الماضى بشأن المعتقلين وهو أن التعذيب كان يُستخدم فى محاولة لإكراه المسجونين على «تأكيد» وجود علاقة وهمية بين القاعدة وصدام حسين لتسويق تلك الحرب يجتذب الاهتمام أخيرا. وكلما زاد ما نعرفه عن ذلك تتأكد أهمية الدعوة إلى الشفافية ثنائية الأحزاب(أى الحزبين الديمقراطى والجمهورى). وأنا أعنى ثنائية الأحزاب بالفعل. فكل من ديك تشينى، الذى يأمل فى إثبات أن التعذيب «أفلح» ونانسى بيلوسى، التى تدفع تهم النفاق الخاصة بالتعذيب، يطالبان الآن بنشر وثائق وكالة الاستخبارات المركزية السرية. وعندما يتفق فى الدعوة مثل هذا الثنائى المتناقض، فإن الموجة ترتفع على نحو أسرع مما يمكن لأى إدارة السيطرة عليها. فالقضايا المنظورة فى المحاكم، بما فى ذلك الاستئنافات المقدمة من «التفاحات الفاسدة» الذين جعلوا منهم كباش فداء لأبو غريب، سوف تكشف عن المزيد من الأسرار وتضع المزيد من المسئولين القلقين الحاليين والسابقين ضمن مطالب تشينى بيلوسى الخاصة بالإفراج عن الوثائق. لست أحد مشجعى اللجان المستقلة غير الحزبية فى واشنطن حيث يمكن تلفيق الحقيقة. ولكن تحقيق الحادى عشر من سبتمبر أوضح بجلاء كيف أنه بعد أن تلقى بوش موجز معلومات استخباراتية بعنوان «بن لادن عازم على ضرب الولاياتالمتحدة»، قُتِل ثلاثة آلاف أمريكى تحت سمعه وبصره هو وتشينى. وإذا كانت إدارة أوباما ترغب بالفعل فى الخروج من حقبة بوش المظلمة، سوف تكون بحاجة إلى لجنة جديدة، يدعمها التنفيذ الجاد للقانون، لبيان مسئولية كل شخص. New York Times syndication