لم يبد أحمد الصادق متحمسا للنزول إلى الشارع للمشاركة فى الاعتصام فى أيام الثورة الأولى، ولم يكن يجد جدوى من ذلك، خاصة مع الخطاب الثانى للرئيس مبارك، فكان يرى أن هذا هو أقسى ما يمكن أن تكتسبه الثورة، وأن الرئيس لن يتنحى. كان يسخر من زملائه المتحمسين للمشاركة فى الاعتصام، ولم يفكر فى أن ينضم إليهم. ولكن الأيام التى تلت الثانى من فبراير كانت محورية بالنسبة لتوجه فكر أحمد الصادق، ففى هذا اليوم عادت خدمة الإنترنت بعدما انقطعت من يوم جمعة الغضب، وبدأ أعضاء الفيس بوك فى تحميل الفيديوهات التى صورت مشاهد من أحداث الثورة. وكان من بين هذه المشاهد مشهد مقتل شاب أعزل من الإسكندرية على يد أحد قناصة الشرطة. انفعال أحمد الصادق بالمشهد جعله يعود ليشارك المعتصمين فى الميدان ويطالب حتى بتنحى مبارك (كان يتردد فى المطالبة به من قبل)، ويرجو محاسبة المسئولين عن مثل هذه الجريمة بمن فيهم الرئيس. أحمد الذى ظل يفكر بعقله، حسب قوله، عاد مرة أخرى من خلال الصور التى تم رفعها على الإنترنت وأيضا الصور التى نقلتها الفضائيات ليتحرك من خلال عواطفه. فيديوهات وصور الإنترنت، بالإضافة إلى الفضائيات كان لها تأثير كبير على حركة الناس فى الشارع وقت الثورة. ففى صباح السادس والعشرين من يناير اجتاحت صورة ميدان التحرير بالأعداد الكبيرة فيه مكان الصور الشخصية لعدد كبير من أعضاء الفيس بوك، كنوع من الترويج للمشهد الحضارى الذى قدمه الشباب فى هذا اليوم، فى مقابل التعامل القمعى الذى تعرض له المتظاهرون ليلتها. والمشهد الذى بكى فيه وائل غنيم المسئول عن صفحة خالد سعيد التى دعت للتظاهر يوم 25 يناير فى برنامج العاشرة مساء، ساعد كثيرا على احتشاد العديد من الجماهير فى ميدان التحرير فى اليوم الذى تلاه، بعدما خفتت بعض المطالبات بالاستمرار، وتلا ذلك دعوة العديد من المتظاهرين بأن يتحدث وائل غنيم باسمهم. وتلا تنحى مبارك مشهد اللواء محسن الفنجرى وهو يقدم تحية عسكرية إلى شهداء الثورة، مما نتج عنه ثقة طويلة فى الجيش المصرى الذى قدم هذه اللفتة. ولم تخل الثورات أو الانتفاضات العربية التى سبقت وتلت الثورة المصرية من صور ومشاهد بارزة شهيرة، فبعد سقوط زين العابدين بن على تناقل مستخدمو اليوتيوب والفيس بوك فيديو لتونسى يصرخ فى شارع بورقيبة بحرية تونس، وربما كان لهذا المشهد تأثيره على رغبة بعض المصريين فى التغيير مما كان يظهر فى التعليقات لتكرار إحساس الكرامة الذى شعر به الرجل الصارخ. أيضا وحشية النظام الليبى فى تعامله مع مواطنيه المعترضين على حكم القذافى ظهرت فى الصور والمشاهد التى توضح مقتل أطفال وأشلاء للجثث التى خلفها قصف القذافى. كذلك صور القتلى فى مدينتى درعا والصنمين بسوريا. «نحن نعيش فى عصر الصورة بامتياز»، يقول د. محمد شومان عميد المعهد الدولى للإعلام بأكاديمية الشروق، «والإنسان الآن محاصر بثلاث شاشات؛ التليفزيون والكمبيوتر والموبايل. هذه الشاشات قدمت لنا سيلا من الصور أثناء الثورة». هذا السيل من الصور المؤيدة والمعارضة على حد تعبير د. شومان أنشأ ما أطلق عليه حرب الصورة بين إعلام النظام السابق وبين الشباب الذى قدم من خلال الفيس بوك وغيرها من الوسائط الإلكترونية ما سماه د. شومان إعلام المواطن، يقول: «النظام حاول إنكار ما يحدث وحاول تشويهه، ولكنه خسر المعركة، وكانت الهزيمة الأكبر يوم موقعة الجمل، حيث بدا النظام كأنه من عصر ما قبل التاريخ الذى يواجه شباب عصر المعلومات». مشاهد القتل والترويع التى مارسها النظام قوبلت بمشاهد المظاهرات المليونية السلمية التى نقلتها الفضائيات، لتتحول الثورة المصرية بتلك الصورة إلى أيقونة إعلامية، بحسب تعبير د. شومان. مستويات للواقع «الجزيرة تقول إن الملايين يحتشدون فى الميدان، العربية مئات الآلاف، التليفزيون المصرى الآلاف، مبارك: أنا مش شايف حد». هذه النكتة كانت تروج على الفيس بوك وتويتر أثناء اعتصامات الثورة، وبغض النظر عن المقصود الأصلى للنكتة، إلا أنها قد تعطى انطباعا بتعدد مستويات الواقع فى التعامل الإعلامى مع الثورة المصرية، إذ تقدم كل قناة فضائية أو حتى كل فرد الواقع من خلال التركيز على منظور ما، وأحيانا يكون هذا الواقع موجها أو مختارا، فحين كانت القنوات الفضائية العربية والأجنبية تركز على التظاهرات الحاشدة فى ميدان التحرير، كان التليفزيون المصرى يبتعد بكاميرته عن قلب الميدان أو يبرز التظاهرات المؤيدة للرئيس. «لا مفر من التوجه»، تعلق د. منى الحديدى أستاذة الإعلام بجامعة القاهرة، «لأنه لا بد أن يكون لدى الإعلامى وجهة نظر، ولكن هناك فارقا بين التوجه والمهنية، فالتليفزيون المصرى الرسمى لم يكن يتعامل مع الأحداث بمهنية على عكس القنوات الفضائية العربية والأجنبية». وبنفس الطريقة يرى د. محمد شومان أنه لا توجد صورة موضوعية، فمتخذ الصورة هو فى النهاية إنسان وتكون له وجهة نظر معينة تظهر فى الزاوية التى يرى منها الصورة. وترى د. منى الحديدى أن المشاهد للصورة هو متعامل وليس فقط متلقيا، فالصورة المعروضة تتيح للمشاهد حرية تأويلها وفقا لوجهة نظره ومستواه الثقافى. وبالتالى فالصورة التى حركت عواطف أحمد الصادق وغيره لا تعتمد على تحريك العاطفة فقط، فهى تؤثر على العاطفة والعقل أيضا، تقول د. منى الحديدى: «أحيانا تأثير الصورة يتضاعف عندما يتضاد مع الخطاب الموجه، فالتليفزيون المصرى الذى كان يقول إن الأعداد فى ميدان التحرير ضئيلة كان يقابل دائما بصور تظهر الحشود الكبيرة فى الميدان، مما يعطى انطباعا بعدم المصداقية للتليفزيون الرسمى». فى أثناء حرب الخليج الثانية كتب الفيلسوف الفرنسى جان بودريار مجموعة مقالات جمعت وعنونت بعد ذلك ب(حرب الخليج لم تحدث)، تحدث فيها عن التعامل الإعلامى مع الحدث الذى خلق واقعا افتراضيا لحقيقة الحرب. الأكاديمى التركى ظافر يوروك حاول فى مقال له بجريدة روداو الإلكترونية أن يستخدم الأسلوب نفسه مع الثورة المصرية، ولكن فى هذا السياق يقول الإعلامى سمير عمر، مراسل قناة الجزيرة بالقاهرة: «الصورة لم تصنع الثورة والإعلام لا يمكن أن يصنع ثورة، ولكنه زاد من ثقة الثوار فى أنفسهم وجعلهم قادرين على الاستمرار. أما صانعو الثورة الحقيقيون فهم الشباب والشهداء الذين ضحوا بحياتهم ولا يمكن أن نبخس حقهم، فالصورة لم تكن سوى عامل مساعد ساهم فى إحداث الثورة». ويضيف: «عندما لا تكون هناك تغطية تليفزيونية على الحدث الذى تقوم به، يسهل اصطيادك والتضييق عليك». وأكد أن الحالة مختلفة بين التجربة الإعلامية أثناء هذه الثورة والتجربة الإعلامية فى حرب الخليج الثانية. ففى مقابل المعروف عن كون التعامل الإعلامى مع حرب الخليج الثانية كان يتم تحت إشراف وزارة الدفاع الأمريكية متحاشية من خلال توجيهها للمراسلين تهييج الرأى العام الأمريكى ضد الحرب كما حدث فى حرب فيتنام، يؤكد سمير عمر أن فى حالة الثورة هناك حقا شهداء ودما مسفوكا. وفى هذا السياق يقول د. شومان: «فى حرب الخليج الثانية كانت هناك قيود كبيرة على الإعلاميين الموجودين، مما أدى لتصوير العمليات العسكرية وعدم تصوير ضحايا الجانب العراقى، ولكن هنا كان الإعلام أكثر حرية ونقل صورة الجانبين المتواجهين، وأنا أعتقد أن المقارنة بين الحدثين غير صحيحة». هذا يتأكد عندما نكتشف أن التغطية الإعلامية الكثيفة لحرب الخليج كانت مقيدة لإظهار الحرب على أنها عملية نظيفة، مما أدى للتقييد على الصور المزعجة كصورة الجندى العراقى المحترق التى صورها الأمريكى كين جاريك. ويرى سمير عمر أن الصور هى التى تدفع الكتل الصامتة إلى النزول والمشاركة فى المظاهرات، ذلك عندما تشاهد ما يتعرض له المتظاهرون داخل الحدث مما يدفعهم للتضامن معهم. ويضيف أن تأثير الصورة فى صناعة الخبر يصل إلى الثلثين من تأثير التغطية الإعلامية ككل. ولكن إحساس المتظاهر المصرى بأنه هو من يحرك الحدث الآن ربما كان هو المختلف، فالفيلسوف الفرنسى آلان باديو ذكر فى مقاله بجريدة «لوموند» عن الثورة المصرية تجربة مصرى شاهده على الفضائيات يقول إنه اعتاد سابقا أن يشاهد التليفزيون ولكن الآن فالتليفزيون هو الذى يشاهده. وهذا هو ما يتفق معه سمير عمر من كون حركة الفضائيات كانت فى النهاية رد فعل لتحرك المتظاهرين على الأرض. ولكن لا شك أن الصورة والتعامل التليفزيونى مع الأحداث قد يكون له مساوئه، من كونه يضفى درامية على الحدث، وانسحاب التغطية المباشرة والتكثيف الإعلامى عن الثورة المصرية لصالح الثورة الليبية مثلا ووفقا للترتيب الإعلامى التقليدى للأحداث قد يعطى انطباعا بأن الثورة انتهت، وأنه جاء الوقت ليعود كل شىء إلى حالته الطبيعية، رغم أن الحفاظ على مكاسب الثورة، أيا كان توجه من يسعى لهذا الحفاظ، يحتاج إلى يقظة دائمة، وألا تعود مصر أبدا للحظة التى كانت عليها.