قبل نحو ستين عاما كانت الخضرة تشع بالنور زاهية في كل مكان حولنا، وفي الطريق إلى المدرسة الابتدائية بأطراف المدينة القريبة كنا نعبُر بستانا من بعد بستان للأطفال، ونجد داخل كل منها لافتات تحمل عبارة تقول "هذه زهرة جميلة؛ إن تقطفها فهي لك، وإن تتركها فهي للجميع." وكانت مصر وقتها توصف بأنها صاحبة أكبر متنزهٍ طبيعي في العالم؛ الدلتا والوادي الخِصب. لكن لم تكد تمضي عشرة أعوام على ذلك المشهد الرائع البديع من المشاهد المحفورة في ذاكرة الطفولة؛ حتى انطلقت جحافل الغزو العمراني التتاري تنهش بأنيابها ومخالبها في قلب وأحشاء ذلك الوجود الفردوْسي. وسرعان ما تحولت مصر نتيجة لذلك إلى "أكبر مقلب قمامة في العالم"؛ ويظل هذا عارا فاضحا فادحا علينا جميعا، إلى أن تستعيد مصر نضارتها ونظافتها ورونقها وفردوسها المفقود، وذلك بالطبع؛ بخلاف كسْرنا لِكبرياء نهر النيل العظيم . ولقد طفت تلك الذكريات، وتجددت تلك الأحزان، ونحن نرقب توابع ثورة أسقطت نظاما عاتيا وحققت ضربا من المستحيل؛ لكنها تسجل يوما من بعد يوم فشلا مأساويا مفجعا في غرس قيمة بسيطة؛ هي احترام الانتماء إلى وطن أراد الله له أن يكون قمة الاحترام، اسمه مصر. وإذا كانت سلسلة الاحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات التي لا تريد أن تتوقف، هي لعناصر من صانعي الثورة أو أتباعها أو محبيها؛ فلن يحتاج انهيارها إلى جهدٍ يُذكر (أكثر من الابتهاج في شماتة وتشفِّ)، من فلول النظام (أو ما يُسمى بالثورة المضادة)، فالثورة (إذا كان الفعل فعل صناعها أو محبيها) عندئذ سوف تأكل نفسها وتدمر نفسها، حتما وبكفاءة عالية واقتدار . والصورة، على كل حال (ومن حُسن الحظ) ليست بهذه القتامة بعدُ، وهناك بصيص أمل في تصحيح المسار (قبل فوات الأوان)؛ أمل ينبع من شواهد مفرحة تحاول أن تبدع "لغة تحضر" تليق باسم مصر وقيمتها، لكن مفردات هذه اللغة لم تصل بعدُ إلى أقلام الكتاب وأذهان المحللين والمحاورين وحناجر المحتجين والمتظاهرين (والمعتصمين بغير حبل الله). ومن الشواهد ما يمكن أن يُدرَج تحت مسمى "الاحتجاجات الإيجابية"؛ التي لا يعمد فيها أحد إلى أن يقطف "زهرة الحرية" ويستأثر بها لنفسه ويحرم من عبق عبيرها وعطرها مَن سواه. ونجد في هذا التصنيف أولئك الذين قاموا بتنظيف ميدان التحرير؛ احتجاجا على وصمة عار تحويل أرض مصر إلى أكبر "مقلب قمامة في العالم"، فكان احتجاجا يصب في صالح مصر يجني الكل ثماره التي بموجبها يرفع المصري رأسه في كل مكان ليعلن "أنا مصري . . أنا متحضر." وفي ذلك المشهد ألبس الثوارُ مصر ثوب عرسها، وقد طبعوا عليه أول حرف في "أبجدية التحضر." ويظل الشارع يشهد احتجاجات إيجابية مماثلة، وفي نفس السياق؛ من تنظيف للشوارع وطلاء أرصفةٍ وتوزيع أكياس قمامة على سائقي السيارات . ولا يمكن أن ينسى أحدٌ بالطبع 19 مارس الشهير، أعظم يوم "احتجاج إيجابي شامل" في تاريخ مصر الحديث؛ بتظاهرة تحضر تفوق الوصف وتفوق كل التوقعات. كان احتجاج فعل مثمر بنّاء (على ظلمات الماضي القريب) عاد على مصر الوطن ومصر الأمة (كل فرد بالتالي) بالخير العميم؛ وقد زاد الكلّ قيمة وأكسب الكل احتراما فوق كلِّ احترام. وكان ذلك اليوم يوم اكتمال عرس مصر؛ بتثبيت تاج الفخار على جبينها المشرق الشريف. لكن، وبكل أسف، هناك دائما الاستثناء الشاذ المنحرف الذي يفسد الفرحة والبهجة. وفرحة ذلك اليوم المشهود أفسدها عدوان سفيه سافر على مواطن مخلص تفرح به مصر وتفخر، وتلعن وتدين وتحتقر وتنبذ الأيادي الآثمة التي امتدت إليه بالأذى؛ وقد اغتصب أصحابُها الحرية غنيمة لهم وحدهم "وليذهب من سواهم إلى الجحيم." وهؤلاء لا يختلفون في بشاعة الإثم إلا في الدرجة؛ عمن ينصِّبون أنفسهم محققين وقضاة وجلادين. وصناع الثورة ومحبوها طالما طلعوا علينا بحلول مبتكرة، ولن يُعجزهم أن يخرجوا بحلِّ عبقري في فنون "الاحتجاج الإيجابي" يستثمر طاقات أصحاب المطالب الشخصية والفئوية والمحلية والمهنية، فيما يوصل رسائلهم بقوة وفاعلية؛ ويصب في صالح الوطن، اقتصادا وسمعة وتحضرا وتحررا وإنتاجا. وكمثال عملي حضاري متحضر ممكن؛ أن ينظم أصحاب المطالب أنفسَهم في قوافل عملٍ تنتشر في الشوارع والميادين بالقرى والمدن، تنظفها وتنسقها، وهم يرتدون سُتراتٍ سُجلت عليها لوائح مطالبهم . وفساد نظام فاسد يصلحه صلاح نظام صالح، يدعمه جهد صالح لجماهير واعية ناضجة صالحة مسئولة. وعوائق قيام هذه الشراكة الحيوية تظل متغلغلة ومستشرية ومستأسدة؛ وبها يبقى الفكر السائد هو نفسه فكر عهود الظلام. ويبقى السلوك الغالب في الشارع المصري الذي يشكل بيئة العمل الوطني هو نفسه سلوك عهود الظلام وإن فاقها ظُلمة؛ لأن المنفلت في الماضي كان يتحرك خلسة كلما سنحت له الفرصة. أما الانضباط (المروري مثلا) اليوم في الشارع المصري فلا يحكمه ولا يتحكم فيه سوى الضمير الحر وعزة النفس. ويبقى الضمير الحر، وعزة النفس (وبكل الأسى والأسف) أندر كثيرا مما كان عليه الحال في عصور الطغيان. وتبذل الدولة أقصى المستطاع لتصلح ما أفسده النظام، وعلى المخلصين في هذه الأمة أن يجتمعوا على غاية ظهور شعب جدد نفسه ويُصلح ما أفسدته الأيام. ولن يفيد مصرَ شيئا أن يتخلى الشعب تماما عن مسئوليته في تحقيق الإصلاح؛ ويلقيها بكامل ثقلها على مجموعة أفراد يديرون شئون البلاد، ويُطلب منهم مع ذلك إصلاح الكون الذي يشكله شعب يرفض أن يكون شريكا مسئولا عن إصلاح نفسه وإصلاح حاله .