إذا كان ما حدث منذ الخامس والعشرين من يناير يعد انجاز ومفخرة لكل الشعب المصرى بكل معنى الكلمة. فإن ما يجب على الجميع فى اللحظة التالية لهو الأخطر والأشد وطئا ، لسبب بسيط ، وهو أن النجاح فى مرحلة الثورة الأولى – الاحتجاج والتظاهر – استوفى أولى شروط النجاح الأساسية وهوالتوحد والتجانس فى المطالب كما كان الشعار أو كلمة السر فيها " يد واحدة " و"سلمية سلمية" ، فإن القادم فى المرحلة التالية –التأسيس والبناء- لهو الأخطر لأنه ربما يعد من أولى بديهياتها ولا نقول من مستلزماتها الاختلاف والتباين فى الرؤى والمطالب، ومن هنا كان من الطبيعى أن تطل المخاوف من مخاطر الالتفاف حول الثورة ، أوسرقتها وربما إجهاضها. ولذلك فإنه يجب على جميع القوى المبشرةوالمؤججة والصانعة للثورة وعلى كل من لهم المصلحة الأولى فى التغيير إلى الأفضل وهم الغالبية العظمى من المصريين وفى مقدمتهم الشباب الانتباه إلى عدة أمور: 1- الشباب وإنكار الذات من الضرورى التواضع إزاء معطيات صنع الحدث ، والقناعة بأن كل مجريات الأحداث التى رافقت صناعة الثورة وتجلياتها الإيجابية لم تكن بالدرجة الأولى رهن اختيار الزمان أو المكان ،وإنما نتيجة لنضج كل مقومات صناعة الحدث ونضج فوران طاقة الغضب ، وتضخم أخطاء وفساد واستبداد النظام إلى ذروته ، واجتماع وتوحد النخبة بعد تجاوز الاختلافات الأيدلوجية والاندماج معا فى تكتلات صاغت أهدافا واحدة كان ذروتها فيما سمى بالبرلمان الشعبى ، ثم مجىء شرارة الثورة التونيسية وتحقق نجاحاتها بإزالة رجل من أكبر مستبدى المنطقة، والإضافة إلى كل ذلك التوافق مع قدر الله عز وجل الذى أمهل هذا النظام الظالم حتى وفىّ أجله وانتصافا لهذا الشعب المستضعف والأبي. وعلى قيادات الشباب عدم الانجرار وراء نسبة هذا الحدث بكل تجلياته لاسهاماتهم العظيمةوفقط وبمعزل عن كل طوائف الأمة التى شاركت وباركت واحتضنت وضحت. ومن جملة هذا الانصاف لجموع الشعب أن لا يقضى بشىء أو تكون هناك مغالاة أو تعسف فى طرح المطالببدون الرجوع إلى مصلحة جموع الأمة. كما من الضرورة الوعى أيضا إن إدراك مقومات النجاح بمهارات ثقافة " الاحتجاج" لا يعنى بالضرورة الاستحواز على مهارات البناء والتأسيس فمنالضرورى الاستفادة بكل الخبرات الصادقة والطاقات المتخصصة، والقيادات الفكرية والتاريخية. 2- المثقفون وإنصاف الشعب أتفهم أن يستخدم " حاكم مستبد" من سلسلة الحكام العرب التيار الإسلامى كفزاعة لتخويف الغرب والحيلولة دون تفهم ثورة الشعوب العربية وحقها فى انتزاع حريتها وتحديد خياراتها نحو الحاضر والمستقبل، ومن ثم لا بديل عن دعم هذه النظم فى مشروعها للفساد والاستبداد. ولكن مالا أتفهمه أن تسقط نخبة من المثقفين فى نفس الخطيئة وإن بدت بصورة أكثر فظاعة، حيت لم نجد فقط مسألة تخويف الغرب من هذه الفزاعة فقط من أجل اكتساب وتأييد ودعم الحكومات الغربية وأبواقها باعتبارهم " هذه التيارات من المثقفين " البدائل المأمونة لديه، وعلى اعتبار أن الغرب على استعداد أن يدعم أى تيارات تحمى مكتسبات الغرب الأيدلوجية ولا تعمل على إحياء هوية الشعوب الاسلامية من ثباتها. ولكن بالإضافة لذلك تستخدم هذه الفزاعة المتجلية فى الحالة المصرية فى جماعة "الاخوان" من أجل تخويف الشعب أيضا وكأن هؤلاء المثقفون أوصياء فى تحقيق المصلحة وفى تحديد واختيار البدائل التى يستحقها الشعب، حيث لا ينفكون يثيرون الضجيج والجلبة عند ظهور قيادات ورموز للتيار الفزاعة فى المشهد ولو بحجم ونسبة دون ما يستحقونه من صناعة الحدث"الثورة". هذا بالإضافة لدكتاتورية هذه الشريحة أيضا فى الاصرار على الاطاحة بالمادة الثانية من الدستور رغم أنها أضيفت له عبر استيفاء شعبى لا يستطيع أن يشكك فيه أحد. من ناحية أخرى أتفهم أيضا خطيئة الحاكم المخلوع ونظامه وحكومته بل حتى نائبه الذى جاء فى الوقت الضائع ، حينما كانوا يستخفون بالشعب المصرى مدعين تخوفهم عليه من خطورة استيعاب واستحقاق الديمقراطية ، وأنه مازال أمامه السنين والعقود حتى ينضج فى التعامل معها ، وأنه من الأفضل له أن يأخذها على جرعات. ولكن ما لا أتفهمه أن تقع نفس الشريحة من المثقفين فى نفس الخطيئة وإن لم يصرحوا بذلك لفظا، ولكن عبر قناعات أخرى. من ذلك ما يراه جلهم من ضرورة تأجيل الانتخابات التشريعية لمدة عاموتبريرهم الأساسى لذلك هو التخوف من سيطرة القوى التقليدية على البرلمان القادم وخاصة الإخوان ، وهى نفس الحجة التى ارتأوها فى التعجيل بتشكيل جمعية وطنية لوضع الدستور حتى لا يكون حق تشكيلها للمجالس التى سينتخبها الشعب. وأعتقد أنهم لو اكتفوا بالتبرير للتأخير حتى تحقيق مطلب إطلاق حرية تكوين الأحزاب وإعطاء الفرصة أمام قوى الثورة الصاعدة لكان لمطلبهم قدر من المصداقية ، ولكن أن يقرن ذلك بالتشكيك فى قدرة الشعب على اختيار نوابه بشكل صحيح، والتخويف من سقوطه فريسة لهيمنة من لا يستحق فإن فيه نفس الاتهام لهذا الشعب ومن أنه مازال قاصرا وغير مكتمل النضج فى التعامل مع هذا الطارىء الديمقراطى، ومن أنه مازال دون المستوى فى التمحيص بين القوى المختلفة وبين من يستطيع أن يحسن تمثيله والمطالبه بحقوقه وبين من يريد أن يسرق أحلامه ويتاجر بهمومه. وهذا فيه من المغالطة أو التغافل من أن المشكلة الحقيقية كانت فى عدم توفر الضمانات الحقيقية التى تسهم فى تحقيق العملية الانتخابية السليمة. 3- لحاق الشرطة بركب الثورة ومشاركة الشعب اعلم أن الشرطة وأبناءها الآن فى ورطة تاريخية أوقعها فيها نظام استبدادى عتيق. وورطتهم التاريخية فى أنهم تحملوا تركة استبداد النظام والحماية عنه، كما تلوثت أيديهم بدماء المصريين حتى لحظة قيام الثورة وانطلاق شرارتها، حيث كلل هذا التورط بالانسحاب من الميدان برمته وكأن جهاز الشرطة لم يكن له من مهمة إلا قمع الشعب وليكون ختام المشهد أن هناك جريمتين : جريمة مواجهة الشعب الثائر بالرصاص بلا رحمة، وجريمة الانسحاب من الميدان كل الميدان والإخلال بالأمن وترويع الشعب معاقبة له على هبته وثورته، بالإضافة إلى جريمة التحول من خدمة الشعب إلى خدمة نظام مستبد فاسد عبر ثلاثين عاما أو يزيد. والآن وبعد أن نجحت الثورة فى مراحلها الأولى ، يعز على قطاع عريض من الشرطة وهو الذى لم يلوث بدماء وتعذيب المصريين ، أن لا يشارك الشعب فرحته التاريخية وهم جزء منه بلا شك، بالإضافة إلى ما يحمله بعضهم من إحساس بوخز فى الضمير لإدانة الشعب لهم أو الغالبية منه بأنهم كانوا حماة بالدرجة الأولى لنظام سامهم سوء العذاب والفساد، لذلك تفضل تلك القطاعات الاستمرار فى الانسحاب عن الميدان حتى ينسى الشعب أو يغفر. ولأن الشعب يعز عليه أيضا أن لا تكتمل فرحته فى إنجاز هذه الثورة التاريخية لفقدان الأمن والأمان، فمن هنا وجب الخروج من هذا المأزق، حيث لا إمكانية لحل هذه المعادلة الصعبة إلا عبر إعلان دستور جديد بقيادات أمنية جديدة تؤطر للعلاقة بين الشعب والشرطة ، وتعظم فيه حقوق الشعب كل الشعب، وذلك بعد أن تتم سرعة المحاسبة للمخطئين فى حقه من هذا الجهاز فى جرائم لا تغتفر أو تسقط بالتقادم. 4- الاحتجاجات الفئوية والمصلحة العامة للشعب إن الأفراد جزء من الشعب، واحتياجات فئات الشعب جزء من الهم العام لمجمل الشعب، ولكن قد تكون المطالبة بالمصلحة الخاصة بأحد الفئات فى ظرف ما تشكل إعاقة نحو تحقيق المصلحة العامة لكل الشعب، وخاصة إذا لم تتوفر الظروف المناسبة لا كتساب هذا المطلب الخاص، وربما صاحب المطالبة بهذا المطلب المستحق فوضى تعيق حركة الحياة وتوقف عجلة الانتاج. ولقد انطلقت الثورة واكتسبت شرعيتها من كونها تنادى بتغير النظام كل النظام ، سياسة ورموزا فضلا عن فلسفته فى حكم البلاد تلك التى كرست للظلم والفساد والاستبداد، وذلك بناء أن هذا أصل الداء وتغييره سوف ينعكس إيجابيا على كل الشعب كما سيوفر المناخ الذى يؤهل لاسترداد كل الحقوق والمكتسبات. ومن هنا كان التسرع بتدفق فوضى الاحتاجات الفئوية فى وقت شلت فيه إدارة البلاد لوجود فراغ فى أعلى السلطة وفى غياب المؤسسات التشريعية وعجز فى اقتصاد الدولة عن الوفاء بكل المطالب نظرا للخراب الذى ورثه النظام البائد، كما يعد التعجيل بالمطالبة بكل ذلك هو نوع من الإضرار بالمصلحة العامة للشعب، كما يعد تعويقا لمسيرة الثورة وتشتيتا والتفافا حول مطالبها العامة وتفتيتا لمبدأ الوحدة والتوحد وإرادة اليد الواحدة. ومن هنا اعتبرها البعض جزء من ثورة مضادة تتربص بالنجاحات الموعودة للثورة ، فهل وعى من يطالبون بمطالبهم الخاصة كل ذلك، وآثروا المصلحة العامة لكل الشعب.