تتنافس القاعات الفنية اليوم لتقديم أعمال من وحى ثورة 25 يناير أو تحية لشهداء الثورة، ومن خلال جولة فى هذه المعارض الفنية نطرح السؤال حول مستقبل الحركة الفنية وتأرجحها بين التوثيق التسجيلى والتعبير الفنى المجازى. على الطريقة البهجورية، رسم الفنان جورج بهجورى السيدة أم كلثوم بالحجم الكبير، فى مجموعة لوحاته المواكبة للخامس والعشرين من يناير، وقد أمسكت «الست» بمنديلها، بينما خطوط بهجورى تبرز حركة الوجه وتقاسيمه لتعكس للمشاهد لوعة الصوت كما لو كان يسمعها وهى تشدو بأن «للصبر حدودا»، بعد أن صبر المصريون لأكثر من 30 عاما,. أو لعلها فى وقفتها الشامخة، التى ترمز إلى مصر، وقد اصطف خلفها جموع البشر التى ملأت ميادين مصر، لعلها كانت تهمس فى خيال الفنان: «وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبنى قواعد المجد وحدى». لم تكن هذه اللوحة هى الوحيدة المعبرة عن ثورة 25 يناير والتى ألهمت وألهبت خيال بهجورى فقدم بقاعة بيكاسو بالزمالك مجموعة من خمسة أعمال ارتبطت بالثورة البيضاء. فجرت ثورة 25 يناير الطاقات الفنية الكامنة لتتأكد مقولة أن الثورات تصنع فنانيها. فقد كرست معظم القاعات الفنية العامة والخاصة ساحات معارضها لموضوع الثورة، سواء كانت أعمالا مرتبطة مباشرة بالثورة أى أنها من قلب الحدث وحوله، أو كانت أعمالا مصرية مقدمة تحية للثورة. إذ تقدم قاعة الأوبرا مجموعات منتقاة من الصور الفوتوغرافية لشعبة المصورين الصحفيين التابعة لنقابة الصحفيين، وذلك ضمن احتفالية فنية «سجل يا زمان» تضمنت على مدى أسبوع وإلى جانب معرض الصور أمسيات فنية على المسرح المكشوف. كما يعرض حاليا أتليه القاهرة «كاريكاتير الثورة» لمجموعة من الرسامين المصريين ومجموعة من رابطة اتحاد رسامى الكاريكاتير الأمريكيين، الذين تابعوا نبض الثورة يوما بيوم. ولم تفت القاعات الخاصة أن تسجل هذه اللحظة، فذهبت قاعة سفر خان تبحث عن شباب الفنانين من قلب ميدان التحرير، وتقدم حاليا معرضا لثلاثى من المصورين الفوتوغرافيين هم باسم سمير وحسام حسن وعلاء طاهر. وقاعة خان مغربى قد أعلنت عن تلقيها للأعمال الفنية من وحى الثورة، وأعمال كبار الفنانين ليذهب عائدها إلى أسر الشهداء. أما قاعة الزمالك للفنون، فتعرض مجموعة من أعمال الفنانين الذين اعتادت أن تنظم معارضهم الخاصة مثل فرغلى عبدالحفيظ وفاروق وهبة ورباب النمر وزينب السجينى ومصطفى الرزاز وغيرهم وأعلنت أن عائد معرضها «مصر الأم» سيذهب إلى تحسين اقتصاد مصر عبر رقم إيداع بالبنك المركزى. أما قاعة تاون هاوس بوسط البلد، فقد تخلت عن الشروط والمعايير الصارمة التى تحكم قبولها الأعمال الفنية المعاصرة ذات الرؤية الانسانية الواسعة، لتفتح أبوابها للجمهور الواسع، حيث يجد الزائر مستويات متفاوتة من أعمال طلبة يقدمون لوحات من الدراسات الفنية، أو أعمال بورتريه للهواة أو أعمال فيديو آرت، وتعلن القاعة على موقعها الالكترونى خوضها هذه التجربة رغبة منها فى الانصات للشارع وتجديد وتغيير مفاهيمها بعد ثورة 25 يناير. تقودنا هذه الجولة بين المعارض الفنية إلى التساؤل حول إلحاح الحدث على كل مناحى الحياة وبين الترويج والاستثمار باسم الثورة. فلم يكن ممكنا التغاضى عن مولد الروح الفنية التى انطلقت من قلب التحرير ومدن مصر المختلفة، أى أنه لم يكن ممكنا إقامة معرض فنى عادى يكرس لأحد كبار الفنانين أو يكتشف إحدى المواهب الجديدة بينما الثورة ما زالت تثمر فنا جديدا، أما العمل الخيرى فينبغى أن يخرج عن دائرة الحكم والتقييم الفنيين. الثورة بين التوثيق التاريخى و الالهام الفنى. وماذا إذن سيكون مستقبل المعارض فى الفترة المقبلة، هل ستستمر فى تقديم أعمال 25 يناير، لتكون شاهدا على المرحلة؟ أم أنها ستتوسع وتخرج عن الرؤية المباشرة للثورة لتطرح رؤى مغايرة قد تحمل ملامح المرحلة القادمة ؟ ألم يكن الفن دائما حاملا لرؤى المستقبل؟ لا يمكن التنبؤ بالمستقبل، كما تقول سلوى المغربى مديرة قاعة خان المغربى التى لا تزال تتلقى الأعمال الفنية المتبرع بها أصحابها من أجل أسر الشهداء. فقد ظهرت بالفعل مواهب جديدة من قلب الحدث، وتأثر العديد من الفنانين بوفاة زميلهم الفنان أحمد بسيونى فى جمعة الغضب، فقدموا أعمالا يتصدر مشهدها مثل فى أعمال بوتريه تسنيم المشد، أو فى أعمال صباح نعيم، وقد امتزجت صورة الشهيد برؤية فنية حول الثورة. أو فى أعمال فارس أحمد التى صورت عبر لوحتين مواجهات الأمن مع المتظاهرين فى جمعة الغضب و كذلك فتك البلطجية بالمتظاهرين فى نفس موقعة الجمل. أما شيرويت شافعى مديرة قاعة سفر خان، فترى المشهد الفنى بشكل شديد التفاؤل، حيث تنوى أن تقيم معارضا متنوعة فى الفترة المقبلة: «سوف أتمسك فى المرحلة المقبلة بشباب الفنانين وأعيد اكتشافهم»، مضيفة أن الحياة ستسير فى مجراها الطبيعى فى الأيام القادمة وستكون الناس شغوفة بالفن الجديد. غير أن السؤال الذى سيطرح فى المرحلة المقبلة هو تحديد الفارق الذى يفصل بين التوثيق التاريخى للحدث وبين العمل الفنى الذى يفترض مستوى من المجاز والخيال والفنية، أى إلى أى مدى قد تنال روح التوثيق من فنية العمل؟ حتى لا يصبح المنتج الفنى وليد اللحظة أشبه بالأعلام والشارات والتى شيرت التى يتبارى فى تقديمها الباعة الجائلون. أما الجانب التسجيلى فيتمثل فى الصور الصحفية التى واكبت لحظات الثورة ونشرت الصحف بعضا منها والتى تعرض فى قاعة دار الأوبرا وتجمع أكثر من 50 صحفيا منهم مجدى إبراهيم بجريدة الشروق وعمرو عبد الله بالمصرى اليوم وأحمد اسماعيل باليوم السابع، لكنها تجمع مستويات شديدة التباين وكانت تتطلب بعضا من الانتقائية. بينما الأعمال الفنية لا يمكن أن تكون نقلا أمينا للواقع، بل إن مجمل الأعمال الفنية تشكل فى النهاية توثيقا فنيا لأحداث الثورة. ونرى مثالا واضحا على هذا فى الأعمال الجدارية كبيرة الحجم التى عرف بها الفنان طه القرنى، والتى يعرض جانبا منها فى قاعة بيكاسو. ورغم أنها تنال إعجاب الجماهير، إلا أنها رصد توثيقى للمظاهرات بها أدق التفاصيل وتصبح أقرب إلى الصورة الفوتوغرافية، لدرجة أنها تصور اللافتات وما كتب عليها مثل لافتة «احذروا» التى يحذر فيها الفنان من «الثورة المضادة من إخراج صفوت الشريف، ومنتج فنى جمال مبارك». وعلى الجانب الآخر تمثل أعمال شباب المصورين المعروضة أعمالهم بقاعة سفر خان تسجيلا وثائقيا لا يخلو من فنية وإعادة انتاج للصورة الفوتوغرافية بحيث تحمل رؤية فنية خاصة. مثل أعمال حسام حسن الذى قدم مجموعة أعمال فوتوغرافية تم معالجتها بالمونتاج والفوتوشوب وإبراز النيجاتيف وإضافة الألوان، لتقدم لوحات أقرب إلى البوب آرت. أما أعمال علاء طاهر وباسم سمير التى لم يتم التدخل فيها فنيا، لكنها اعتمدت على براعة اللقطات وطزاجة رؤية هؤلاء الفنانين الشباب الذين عايشوا الحدث وأبرزوا جوانبه المسكوت عنها. مثل صورة علاء طاهر التى التقطها من أسفل العلم المصرى المحمول بأيدى مئات الشباب، بينما الصورة التقليدية المعروفة كانت الصورة البانورامية التى تصور العلم من علٍ. أما باسم سمير فقد التقط الكتابات التى كتبها بنفسه على الأسوار وصارت مثل لوحات الجرافيتى المعروفة والتى تخط كتابات ورسوم التمرد فى بلدان العالم المختلفة. إنها اللغة العصرية وروح الثورة التى يتحتم علينا أن ننصت لها فى المرحلة المقبلة.