ينبغى أن ينحنى المرء احترامًا لذلك العبقرى الذى أطلق اسم «المخصوص» على هذا الجهاز فى بدايات القرن العشرين، فقد استشرف الرجل ببصيرة نافذة أن هذا الكيان سيبقى على مدار قرن كامل «مخصوصا» لخدمة الطغمة الحاكمة أيا كانت. «أنا باستغرب من الناس اللى مش فاهمة حقيقة السياسة فى مصر.. مافيش حاجة اسمها ديمقراطية عندنا.. لا كان فيه ولا هيكون.. وكمان مافيش أحزاب سياسية.. ولا حتى الحزب الوطنى يصح نعتبره حزبا ما دام بيقع فى عرضنا كل انتخابات علشان يسيطر على الشعب والشورى والمحليات.. لازم تفهموا إن السياسة فى مصر خلاصتها كلمتين: «سيطرة» من فوق و«طاااعة» من تحت.. والجهاز الوحيد القادر على ضمان السيطرة وتأمين الطاعة هو إحنا». هكذا لخص وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى، فى جلسة مغلقة حضرها نفر محدود من كبار المسئولين، دور ووظيفة جهاز مباحث أمن الدولة فى النظام السياسى المصرى. ورغم مرور ثلاث سنوات على هذه الجلسة، إلا أن المرء لا يسعه إلا استحضارها فى سياق الجدل الذى أثارته ثورة الخامس والعشرين من يناير حول مستقبل هذا الجهاز (حله، إعادة هيكلته، نقل الإشراف عليه إلى إحدى الهيئات القضائية... إلخ). أسئلة مشروعة وأبرز معالم هذا الجدل يكمن فى التساؤلات المشروعة التى يطرحها مواطنون شرفاء بعضهم من البواسل الذين صنعوا الثورة: هل تستقيم المطالبة بحل أهم جهاز أمنى فى البلد فى وقت نعانى فيه جميعا من الفلتان الأمنى؟ وحتى لو كان للجهاز تجاوزات بعضها جسيم، فهل هذا هو التوقيت المناسب لتفكيكه؟ ثم ألا يمارس هذا الجهاز أدوارا وطنية مهمة كمكافحة التجسس مما يحتم الحفاظ عليه؟ وأخيرا ألا تنطوى الدعوة لحل الجهاز على جهل فاضح بحقيقة وجود أجهزة أمنية مماثلة فى أعرق الدول الديمقراطية (المباحث الفيدرالية فى الولاياتالمتحدة مثلا)؟ عندما تتأمل مليا فى هذا النهر من الأسئلة الاستنكارية تكتشف أن منبعه غياب المعلومات ومصبه ضعف الإدراك. فى قضية المعلومات، لا يعرف الناس مثلا أن جهاز مباحث أمن الدولة ليست له أدنى علاقة من قريب أو بعيد بملف مكافحة التجسس داخل مصر، وأن الجهة التى تتولى تلك المهمة بالكامل هى هيئة الأمن القومى التابعة لجهاز المخابرات العامة. وفى مسألة المعلومات أيضا يبدو أن كثرة من الناس لا تعلم أنه لا يوجد جهاز أمنى واحد فى أى بلد ديمقراطى فى العالم تناط به مهمة إخصاء الحياة السياسية قمعا وقهرا بوصفها معركته المقدسة التى لا يعلو فوق صوتها صوت. أعداء الدولة وما دمنا فى باب المعلومات أيضا فإن حقائق التاريخ لا ينبغى تجاوزها، فالحاصل أن بذرة أمن الدولة غرستها فى مصر أيادى الاحتلال البريطانى قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى عندما شعر المحتل أن تركيز الجهد فى ساحات القتال يستوجب تأمين الجبهة الداخلية من خلال استحداث «القسم المخصوص» لجمع المعلومات عن خلايا المقاومة الشعبية والإجهاز عليها. وسرعان ما استطيب القصر تلك الفكرة فانتقلت تبعية «المخصوص» للبلاط مع بقاء المهمة على حالها. على أن المثير حقا أن ثورة يوليو على الرغم مما أحدثته من تغيير عميق فى بنية المجتمع، لم تجد داعيا واحدا لحل هذا «المخصوص» أو تغيير فلسفة ومنهاج عمله. كل ما هنالك أن طبيعة المستهدفين بجمع المعلومات عنهم والإجهاز عليهم تغيرت أربع مرات على مدار القرن الفائت (1913-2011) من «خلايا المقاومة» إلى «أعداء السرايا» إلى «أعداء الثورة» وصولا إلى «أعداء الدولة». ومعها تغير اسم «المخصوص» عدة مرات لمواكبة متطلبات المرحلة. لكن ماذا لو كان «أعداء الدولة» الذين يتعقبهم الجهاز الآن هم فعلا ممن يستهدفون أمن الوطن والمواطن ك«الخلايا المسماة بالإرهابية مثلا) ألا يضفى ذلك عليه طابعا وطنيا ويجعل من وجوده ضرورة؟ قوائم سرية ومما زاد من الغيوم التى رانت على تلك الصورة الكلية أن الناس لم تكن تدرك أو تتصور تلك العلاقة العضوية الآثمة بين «أمن الدولة» وفساد الدولة على النحو الذى فضحته ميزانيات بعض الشركات والهيئات العامة التى دأبت على دفع إتاوات شهرية لمسئولى الجهاز «المخصوص»، ناهيك عما ستوثقه المستندات التى عثر الثوار عليها فى مقرات الجهاز عن علاقة الاعتماد المتبادل بين الجهاز ورجال الأعمال المتنفذين. الفئة التى عمل الجهاز دون كلل على جمع المعلومات عنها والإجهاز عليها لم تكن إذن من الفاسدين (أباطرة الاحتكارات، وسماسرة أراضى الدولة، وغيرهم) ولا كانت بالأساس ممن حملوا السلاح لترويع المواطنين، بل ظل الجهاز طوال حكم مبارك على وعده وعهده منذ نشأته، يستهدف كل ناشط سياسى (باستثناء الموالين للنظام) بالاعتقال والتعذيب والحرمان من الوظائف العامة، بل والحرمان حتى من ممارسة النشاط الإنتاجى والخدمى الخاص، ويستهدف أيضا مؤسسات العمل العام (الأحزاب والنقابات والاتحادات والمجالس) فيفجر بعضها من الداخل، ويفرض الحراسة على البعض الآخر، ويفرغ البعض الثالث من مضمونه. بقى أمن الدولة «مخصوصا» لخدمة الطغمة الحاكمة أيا كانت، و«مخصوصا» لهدر وامتهان قيمة الإنسان المصرى بأبشع صنوف التعذيب، و«مخصوصا» لوأد كل بادرة أمل فى تحول ديمقراطى. على أن الإنصاف يقتضى الاعتراف بأن الأعظم وعيا من هذا العبقرى هم هؤلاء الثوار الذين أدركوا أن ثورتهم لا يمكن أن تكتمل دون القضاء المبرم على هذا «المخصوص» وضمان ألا تقوم له قائمة مستقبلا بأى اسم جديد.