انتصرت ثورة 25 يناير، انتصرت إرادة الشعب المصرى وناصرته الإرادة الوطنية لجيش مصر. إلا أن هذا الانتصار ليس كاملا بعد، فالثورة التى أنجزها هذا الشعب بدعم الجيش مباشرة، ليست مجرد إسقاط هيمنة رئيس وإزاحة جبروته من المشهد السياسى لاستبداله بآخر. إنما الثورة هى إسقاط النظام الكامل لهذا الرئيس، واستبداله بنظام آخر متطهر من كل آثام ومظالم نظام الرئيس المعزول. شعار إسقاط النظام الذى اتخذ شعارا لهذه الثورة النقية العظيمة، يستهدف إقامة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أسس الديمقراطية مدنية رشيدة خالية من الفساد والإفساد، توفيرا للحياة الكريمة للإنسان المصرى، وهى التى تعكسها المطالب التى رفعها الثوار الشرفاء، والتى تعهدت القوات المسلحة المصرية بتلبيتها باعتبارها مطالب مشروعة للشعب المصرى: والتى تُجمل فى إلغاء حالة الطوارئ، والإفراج عن المعتقلين، وإطلاق حرية تكوين الأحزاب، وتحرير الإعلام من ناحية والحياة السياسية بالكامل من ناحية أخرى، وذلك من هيمنة نظام حكم مبارك بنظمها وأفكارها وطريقتها فى إدارة البلاد وشخوصها الذين طالما أفسدوا الحياة السياسية فى مصر طيلة سنوات حكم الرئيس المعزول. لذلك فإذا شئنا تحديد عناصر العمل الوطنى التى تترجم أهداف الثورة، فيمكن إجمالها فى محاور ثلاثة: محور المسئولية : وهو الذى يتعاطى مع الأوضاع السابقة، التى سادت نظام الرئيس الراحل، بكل شخوصها ومؤسساتها وأطرها الفكرية وطرقها فى إدارة شئون البلاد. وتحرير هذا العنصر يستلزم جهدا ضخما فى مقام التحقيق السياسى فى الأسباب والآليات التى أفضت بالأوضاع إلى ما انتهت إليه فى ظل نظام حكم الرئيس المعزول. وهى تحقيقات قد تطول زمنا، وتستلزم قدرا هائلا من الصبر والمثابرة فى المتابعة، للكشف عن أسباب الفساد السياسى، وتنكب أوجه التطبيق الصحيح للديمقراطية، والانقلاب على أسس الحياة السياسية الدستورية القويمة، والانحراف بنظام الحكم من نظام ديمقراطى يقوم على سيادة الشعب باعتبارها مصدرا للسلطات، إلى نظام حكم فردى مستبد، استأثر فيه فرد من خلال حاشيته بكل مقدرات الدولة، وذاك جميعه على خلاف مقتضى أحكام الدستور القائم وقتذاك. غير أنه وعلى الرغم من هذه الصعوبات التى تواجه هذه المرحلة، تظل خطوة أساسية لا غنى عنها فى طريق البناء الجديد لمصر المجتمع/الدولة، فمن المهم تطهير المستقبل من عناصر الفساد الداخلية التى ضربت بجذورها عميقا فى جسد أجهزة الدولة ومؤسساتها، فساد قد يتمثل فى أشخاص وقد يتمثل فى مؤسسات وقد يتمثل فى أفكار. كل هذا يتعين التدقيق فيه بكل جدية، لتنقيحه وتحريره، حتى يمكن القضاء عليه كليا ومن جذوره. محور التغيير : وهو العنصر الذى يؤسس فكريا للنظم المستقبلة التى ترسم طريق النهوض صوب تهيئة أسس الحياة الديمقراطية القويمة، والتى تعلى من مبادئ حقوق الإنسان والشفافية السياسية وحرية ممارسة الحقوق السياسية وما يتبعها فى إطلاق جميع الحريات السياسية والتى يتصدرها حق تكوين الجمعيات والأحزاب وحق الاجتماع السلمى والحق فى التظاهر وحريات التعبير المتنوعة، كل هذا فى إطار من الخصوصية التى لا تنتهكها مراقبة أجهزة بوليسية، تديرها الدولة فى غير صالح المجتمع المصرى والحقوق الفردية الخاصة والعامة فضلا عن حقوق الجماعات النوعية داخل الجماعة السياسية العامة. الأمر الذى يصب فى نهاية المطاف فى تمكين مؤسسات الدولة الدستورية الثلاث من التكون على أسس ديمقراطية مدنية قويمة. وعليه فالتغيير هو مفصل الاستبدال السياسى، الذى يأتى خطوة لاحقة على خطوة الكشف عن الأسباب السياسية والدستورية والجنائية عما حصل للنظام المنقضى. يأتى هذا التغيير ليؤسس لقواعد وأوضاع ومفاهيم مختلفة تتقعد على أسس الديمقراطية الحقة، خالية من كل أسباب الانحراف والفساد التى كانت السبب فى انهيار النظام المنقضى. محور البناء : وهو المرحلة الثالثة من مراحل العمل الوطنى فى فترة التأسيس لمبادئ الثورة، وفيه يأتى دور مؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية والتشريعية، التى يعاد مأسستها وفق محور التغيير على أصول وقواعد ديمقراطية قويمة، فتقوم هذه المؤسسات بدورها فى إعادة بناء الدولة، بوضع دستور مصرى جديد، يتفادى فى أحكامه عوامل انحراف النظام السابق ويُقعد مؤسسيا لدولة عدالة حقيقية، تتقاسم فيها مؤسسات الدولة الثلاث وظائف الدولة الأساسية، تقاسما حقيقيا يحول من جانب دون طغيان إحداها على أخرياتها، ويكرس من جانب آخر لنوع من الرقابة المتبادلة بينها حتى لا تنحرف أيها بوظيفتها افتئاتا على حقوق الأفراد وحرياتهم، ويسعى من جانب ثالث إلى ترجمة الحقوق الاجتماعية الأساسية للمواطنين ترجمة حقيقية تجبر مؤسسات الدولة جميعها على التزامها فى خططها الاقتصادية والاجتماعية. وبعد يبدأ تدوير شئون البلاد كافة، على قواعد من هذه الأهداف والأدوات الدستورية الجديدة، والتى يكون قد توافق عليها جمعيا. على أن اضطلاع الثورة الوليدة بكل هذا، تحت رعاية الجيش شريكها فى الانتصار، ليس بالأمر الميسور، فقد أبى النظام السابق الرحيل إلا والبلاد فى حال مزرٍ متهرئ، على جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. حال من السخط العام تسود بين غالب فئات الشعب وطوائفه، سخط تتراوح أسبابه على أطياف متعددة ومتداخلة ما بين مطالبات بتحسين أوضاع مادية متردية، ومطالبات بالقضاء على البطالة، ومطالبات بالتثبيت فى العمل، وأخرى تتعلق بمحاسبة الفاسدين من المسئولين والقيادات التى تحملها الفئات المختلفة مسئولية ما حصل فى النظام السابق، فضلا عن الانهيار شبه الكامل لكثير من مرافق الدولة الصحية والتعليمية ناهيك عن الأمنية. الأمر الذى يعكس جسامة العبء الكلى الملقى على عاتق هذا النظام الجديد الذى ولد فى ظرف صعب، يتعذر فى تقديرى إمكان تجاوزه بالتصورات القانونية التقليدية للإصلاح. على أن ثمة عنصرا آخر يلقى بظلال كئيبة على المعادلة السياسية القائمة، ويزيد من تعقدها، وقد يدفعها إلى الاصطدام بالاستحالة المطلقة على أى حل. ذاك العنصر يتمثل فى استمرار وجود فلول النظام السابق، ناخرا فى عظم المجتمع، بكل شخوصه وآلياته وأفكاره وأدواته بل ومؤسساته، وهى التى نشطت فى العصر السابق، وكانت السبب الرئيسى والمباشر فيما آل إليه حال هذا النظام المنصرف، الذى هو بمثابة الطابور الخامس. فهؤلاء الذين طالما هيمنوا على الحياة السياسية، بفسادهم ونزوعهم الفردى صوب منافعهم الشخصية الخاصة هم وذويهم، أولئك الذين أعلوا صوالحهم الخاصة على الصالح العام للدولة، ليس من اليسير لهم التسليم بالهزيمة التى مُنى بها النظام السابق، الذى رتعوا فيه ونخروا بسوسهم فى عظامه، وانتهى به المطاف بسببهم إلى سقوطه هو ذاته. أقول هؤلاء لن يسلموا بسهولة بالهزيمة. فالاستسلام بالنسبة إليهم دونه الموت، إذ لن يعنى لهم سوى زوال ممالكهم من الوجود، أى زوال البيئة التى طالما رتعوا فيها، والتى كانت مصدر خير عليهم بثراء فاحش غير مشروع وبنفوذ سياسى مكنهم من حماية أنفسهم من أى مساءلة سياسية أو جنائية. فإذا كان هؤلاء السبب المباشر فيما آل إليه حال نظامهم الذى مثلهم والذى هو صاحب فضل عليهم، فما بالنا بتأثيرهم على نظام يتعارض فى أسسه مع ما تكونوا عليه من فساد وانحراف وطغيان، شادوا عليه ممالكهم. نظام جديد يحاول الاستقامة على أسس تناقض أسسهم. فلا ريب من أنهم سوف يسعون جاهدين للحيلولة دون أن يكمل هذا النظام بناء أسسه، بل سوف يكونون فى غاية الشراسة فى حربهم ضد كل محاولات قيام هذا النظام، وسوف ينخرون بسوسهم فى محاوره الثلاثة بألاعيبهم التى طالما أجادوها وأتقنوا فنونها، والتى كانت قبل أدواتهم فى السيطرة على النظام السابق والانحراف به عن أى جادة صواب، وانهاروا به فى هاويات الانحراف والفساد الذى جعلوه مشروعا، من خلال قوانين مشبوهة مررت من مجالس نيابية مشبوهة، وقرارات وزارية أفدح انحرافا. هذه العناصر الفاسدة يتعين التعامل معها بكل جدية، ونحن بصدد التأسيس لنظام جديد ما زال وليدا، يحتاج إلى حاضنة تحنو عليه وترعى خطوه الأول على طريق إعادة التأسيس، وإن على الأقل فى هذه المرحلة الانتقالية، التى تبذر فيها بذور التمأسس القويم. هذه الحاضنة التى نعنيها هى وضع إطار قانونى غير تقليدى، يحول دون تطفل هؤلاء الفسدة على الحياة السياسية الجديدة، تطفلا يبدأ بزرع شكوك كثيرة حول قابلية هذا النظام الجديد على التكون وينتهى بالسيطرة عليه كاملا من خلال القدرات المالية التى يملكونها وأدوات الإفساد التى يجيدون استخدامها. هذا الإطار القانونى لن ولا يجوز أن يتسم بالدوام، وإنما هو إطار مؤقت بتأقيت هذه المرحلة الانتقالية الوليدة. فلن يظل النظام الجديد وليدا أبدا ولا يتصور أن يعيش نظاما فى حاضنة دهرا، وإنما هى فترة مؤقتة فاصلة فى حياة هذا النظام السياسية. ففى الأوضاع السياسية العادية، تلعب قواعد المشروعية العادية التى تجد فى الدستور سندها وفى أحكام قوانين العقوبات والإجراءات الجنائية بل والقوانين المدنية، حائط الصد الذى يحول دون الفساد وأوجه الانحراف. فمن خلال المسئوليات الجنائية والمدنية يتحقق الردع لكل من تسول له نفسه الخروج عن قواعد الشرعية العادية. أما فى ظل الأوضاع السياسية غير العادية، سيما الوليدة الانتقالية، فإن قواعد المشروعية العادية لن تسعف المجتمع فى حماية ذاته من جذور فساد يعشش ببنيته التحتية، على نحو يحول بالتأكيد دون إمكان إعادة هيكلة قواعده على تلك الأسس الجديدة التى يتطلع إلى التمأسس عليها. فالقوانين ذاتها القائمة والتى من المفترض الاحتكام إليه لتقرير المسئوليات الجنائية والمدنية، هى صنيعة هؤلاء الفسدة، صاغوها على نحو يؤمنهم من يوم مثل هذا الذى نعيشه، فلا تطالهم مساءلة، ويفلتون كليا من أى وكل التزام ترتبه مسئولياتهم السياسية عما حدث. وهنا يتعين البحث عن حاضنة قانونية غير تقليدية، تحقق للمجتمع ولو بشكل مؤقت الحماية والصون، تلك الحاضنة تناظر المضادات الحيوية الذى يحتاج إليه جسم الإنسان، فى أحوال التمكن الميكروبى المرضى منه. فعندما تعجز الأجسام المضادة لدى الإنسان من مجابهة الغزو الميكروبى، أى تضعف قوى الجسم المناعية عن مواجهة الميكروب، لا يكون من بد والحال هذه من مساعدة جسم الإنسان بمضادات حيوية تساعده فى مقاومة هذه الميكروبات. على ان هذا الحل العلاجى ليس حلا دائما مستمرا، وإنما هو مؤقت، ذاك أنه إذا كان المريض المصاب بالميكروب المرضى يحتاج فى بعض الأحوال للمضادات الحيوية، فهو لا يستمر بها كثيرا، وإنما هو يتناولها بقدر، يمكّن جسمه من مكافحة هذا الميكروب، حتى إذا ما تمكن الجسم من استعادة قوته العادية وتلاشى النشاط الميكروبى، تخلى عن هذه المضادات الحيوية، واكتفى بقدراته الجسدية فى توليد الأجسام المضادة التى توجه بذاتها أى تصاعد ميكروبى آخر. هذا بالضبط ما يريده المجتمع المصرى فى الحالة المصرية المعاشة الآنية. فالمنعة الذاتية للمجتمع المصرى غير مكتملة ليحمى نفسه من عناصر الفساد المنتمية للعصر البائد، وهو يحتاج لحماية نفسه فى هذه المرحلة إلى مضادات قانونية حيوية، تدعم بنيته وتقوى من مناعته فى مواجهة عناصر فساد تنخر فى أوصاله، وقد تودى بالتجربة الوليدة إلى الهاوية، والانتكاس إلى سابق العهد القديم. نواصل غداً نشر العدد الثانى من رؤية عماد البشرى عن فساد الحياة