أجواء حماسية طلابية في الأنشطة المتنوعة باليوم الثاني لمهرجان استقبال الطلاب - (صور)    أنباء عن اغتيال مسئول ب حزب الله في الغارة على منطقة الكولا ببيروت (فيديو)    حزب الله: لم نصدر بيانًا رسميًا عن إجراءات تنظيمية داخل قيادة الحزب    "شعر ببعض الآلام".. مصدر ليلا كورة: كهربا يغادر المستشفى بعد استقرار حالته    يلا كورة يكشف مدة غياب محمد هاني المتوقعة بعد إصابته    طبيب الزمالك يكشف آخر تطورات علاج أحمد حمدي    سيناتور أمريكي: إدارة بايدن مشلولة خوفًا من إيران مع تصاعد الأحداث بالشرق الأوسط    جامعة المنيا تقرر عزل عضو هيئة تدريس لإخلاله بالواجبات الوظيفية    المثلوثي: عبدالله السعيد أسطورة مصرية.. وشيكابالا يعشق نادي الزمالك    أحمد محمود: سعيد بالعودة إلى بيتي من جديد.. وأتمني المزيد من البطولات مع الزمالك    عاجل.. الزمالك يعلن التعاقد مع الغيني جيفرسون كوستا لمدة 4 سنوات مقبلة    مقتل 3 أشخاص من عائلة واحدة في مشاجرة على ري أرض بأسيوط    ينتظرك الكثير من الرسائل والمكالمات.. توقعات برج الحمل اليوم 30 سبتمبر    «أمين البحوث الإسلامية» يقدم روشتة علاج للحماية من «خطر الإلحاد» (صور)    4 شهداء ومصابون في قصف للاحتلال وسط وجنوب قطاع غزة    حزب الله يشن 11 هجوماً على مستوطنات جيش الاحتلال    إسرائيل تقصف 120 موقعًا لحزب الله، ولبنان يعلن استشهاد 53 شخصًا    ماذا بعد اغتيال نصر الله؟.. تحديات يواجهها الأمين العام الجديد لحزب الله    رسميا بعد الارتفاع.. سعر الدولار أمام الجنيه اليوم الإثنين 30 سبتمبر 2024 (تحديث الآن)    أستاذ اقتصاد يوضح كيفية تطبيق الدعم النقدي ودور الجمعيات الاستهلاكية (فيديو)    السفيرة الأمريكية لدى مصر تشارك في فعاليات برنامج "هى الفنون" بالقاهرة    محافظ جنوب سيناء: 15% زيادة متوقعة بحجم الإقبال السياحي في أكتوبر ونوفمبر المقبلين    وزير الإسكان يطمئن على جودة مياه الشرب بمحطة بمدينة طيبة الجديدة    الأنبا باسيليوس يترأس قداس المناولة الاحتفالية بكاتدرائية يسوع الملك    نابولي يفوز على مونزا 0/2 ويتصدر الدوري الإيطالي مؤقتا    رضا شحاتة: منصب مدير الكرة مهم في الأهلي    الرئيس السيسي: ندعم استقرار الصومال ولا علاقة لهذا بإثيوبيا    أمواج بارتفاع 4 أمتار.. الأرصاد تعلن تفاصيل طقس الاثنين بدرجات الحرارة    "الحماية المدنية" تسيطر على حريق هائل في سيارة تريلا محملة بالتبن بإسنا جنوب الأقصر    مصرع سائق إثر تصادم توكتوك بسيارة تريلا على طريق قويسنا بالمنوفية    العثور على جثة حارس خاص مهشمة في أرض زراعية بمحافظة البحيرة    جثة أسفل عقار مواجهة لسوبر ماركت شهير بالهرم    سقوط غامض لفتاة يثير لغزًا في أكتوبر    الفرح بقى جنازة، مصرع شاب وإصابة آخر في حادث تصادم جنوب الأقصر    «عيار 21 الآن يثير الجدل».. أسعار الذهب اليوم الإثنين بيع وشراء بعد آخر قفزة سعرية (تفاصيل)    فصائل عراقية مسلحة تعلن تنفيذ هجوم على هدفين في إسرائيل    برج القوس.. حظك اليوم الاثنين 30 سبتمبر: تشعر بطاقة إيجابية    د.حماد عبدالله يكتب: فى سبيلنا للتنمية المستدامة فى مصر !!    زوج أمام محكمة الأسرة: «كوافير مراتي سبب خراب البيت» (تفاصيل)    نسرين طافش أنيقة وفيفي عبده بملابس شعبية.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    حدث بالفن| اعتذار شيرين لشقيقها وموعد عزاء زوجة فنان وانطلاق مهرجان الجونة السينمائي    تامر عبدالمنعم بعد رئاسة "الفنون الشعبية": طالما لدي شباك تذاكر فالمسرح يهدف للربح    عميد معهد القلب يكشف تفاصيل إنقاذ حياة شاب بعملية الأولى من نوعها    هل يؤثر شرب الماء البارد على القلب؟.. الدكتور محمد عبدالهادي يوضح    غدا.. قطع التيار الكهربائي عن 3 أحياء بمدينة طور سيناء    لأول مرة في السوق المصرية.. هواوي توقع شراكة مع «طلعت مصطفى» لتقديم خدمات التكنولوجيا السحابية للمدن الذكية    "مستقبل وطن" يستعرض ملامح مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد    وزير الصحة: حملة «100 يوم صحة» قدمت أكثر من 93 مليون و822 ألف خدمة مجانية خلال 59 يوما    هل يجوز أن أترك عملي لأتابع مباراة أحبها؟.. رد صادم من أمين الفتوى لعشاق كرة القدم (فيديو)    السيسي: مصر من أوائل الدول التي تعالج المياه بأحدث وسائل التكنولوجيا    نائب محافظ دمياط تبحث عملية تطهير خزانات المياه بمبانى الجهات الحكومية    إبراهيم رضا: الزوج الذي لا يعول أولاده خان علاقته بالله.. فيديو    رمضان عبد المعز: الله سبحانه وتعالى يكره هذه التصرفات من عباده    مفاجأة حول المتسبب في واقعة سحر مؤمن زكريا.. عالم أزهري يوضح    دون جراحة، مستشفى ملوي تنجح في علاج حالة سرطانية نادرة (تفاصيل)    الأمانة العامة بالنواب تخطر الأعضاء بجدول الجلسات البرلمانية    متفوقة علميًا وطيبة السمعة، الإدارية العليا تلغي استبعاد فتاة من وظيفة قضائية    الموت يفجع الشيخ أحمد عمر هاشم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستقبل الثورة الشعبية فى مصر فى ضوء تفاعل قوى التأثير الصلبة والمرنة
نشر في الشروق الجديد يوم 20 - 02 - 2011

كما يقول العنوان فإن هذه رؤية من الخارج. لكننى أعرف مصر جيدا من الداخل. أعرف شعبها وقواها وأقطابها ومؤسساتها السياسية.
وقد مكنتنى زياراتى ومهامى الرسمية المتكررة إلى مصر، خلال الأعوام العشرين الماضية، من مقابلة كل أقطاب النظام القديم ابتداء من الرئيس مبارك فمن دونه مرات عديدة.
وليس خافيا أن العلاقة بين نظامينا السياسيين بدأت مأزومة للغاية، لكننا أدركنا بعد تجارب مريرة فى الهجران والتعادى أن هناك ثوابت استراتيجية فى العلاقة ينبغى أن يثوب إليها الطرفان بغض النظر عن اختلافات النظم السياسية. وليس خافيا أن جانبا من الأزمة، كما كنا نراه من ناحيتنا، تمثل فى أن النظام القائم فى مصر لم يؤد ما عليه فى سبيل أن تسترد مصر دورها القيادى والحيوى. كنا نرى أن استفراد الغرب بالسودان، إلى أن استطاع تقسيمه، هو نتاج مباشر لتخلى مصر عن ذلك الدور.
لهذه الأسباب فإن ما يحدث فى مصر يهمنا بشكل مباشر، وتحرى مآلات الأحداث فى مصر واتجاهاتها هو من أول انشغالاتنا. ولا شك عندى أن السودان ليس مختصا وحده بهذه الانشغالات لأن ما يحدث فى مصر يعنى كل المسلمين والعرب وعامة الشعوب النامية. وهذه المساهمة ب«رؤية من الخارج» لا تنطلق من روح وصاية، بل هى محض مساهمة حسنة المقصد ربما تعين على تبين مواطئ الأقدام فى الأرض الجديدة.
عند جرد الحساب، بعد أن تنجلى المراحل الأولى لأية ثورة، وبعد أن تسكن الفرحة الفوّارة، تتجلى قوى مستقرة ومؤثرة هى التى تحدد اتجاهات الأحداث. بعض هذه القوى أصفه وصفا اختياريا بالصلابة، والبعض الآخر أصفه باللين أو المرونة. وليس لأى من الوصفين دلالة قيمية، أى أن وصف الصلابة لا يعنى قيمة موجبة تفيد القوة، ولا وصف اللين والمرونة يحمل قيمة سالبة تفيد الضعف. الوصفان يشيران إلى مجموعة خصائص تميز بعض القوى والعوامل عن الأخرى، وقد تكون القوى والعوامل اللينة أو المرنة أشد وأبقى أثرا على المدى البعيد من تلكم الصلبة. لكن عموما فإن القوى والعوامل الصلبة لها طريقة تأثير مباشرة ويمكن التنبؤ بآثارها، بينما القوى والعوامل المرنة تؤثر بطريق غير مباشر ويصعب التنبؤ الدقيق بآثارها القريبة.
هناك معياران يمكنانا من التعرف على ما إذا كانت القوة المعينة تندرج تحت وصف الصلابة أو اللين.
المعيار الأول هو النظام الداخلى للقوة المعنية من حيث صلابته أو مرونته، والمعيار الثانى هو مجموعة الأفكار والتقاليد التى تضبط حركة تلك القوة وتحدد ميولها نحو المحافظة أو التغيير والتجديد.
وكما هو واضح فإن القوى الصلبة هى الأضبط نظاما والأميل نحو المحافظة؛ والقوى المرنة هى الأقل انضباطا ومركزية والأميل نحو التغيير والتجديد.
بناء على هذا التكييف المنهجى المقتضب يمكننى أن أستنتج أن هناك خمس قوى رئيسية، لكل واحدة منها مجالها فى التأثير، هى الأقدر من غيرها على الاستمرار والتفاعل فى الساحة المصرية فى السنوات، بل العقود المقبلة، لتحديد نتائج الثورة الشعبية التى عمت مصر فى حدث تاريخى فريد.
من المفارقة أن تكون أولى القوى المؤثرة على الساحة المصرية بعد الثورة الشعبية هى القوات المسلحة التى أصنفها بأنها قوة صلبة، حيث إنها تملك تنظيما منضبطا يلحم أجزاءها ومكوناتها، كما أنها تدين لمجموعة أفكار وتقاليد وطنية معلومة تشكل العقيدة التى تحكم تصرفات كل واحد من أفرادها. وهذه الخصائص تجعل من أى قوات مسلحة كائنا يمكن التنبؤ باختياراته وأفضلياته، وأفعاله وردود أفعاله بصورة دقيقة. على هذا التأسيس يمكن الحسبان على أن القوات المسلحة هى عامل محافظة أكثر منه عامل ثورة وتغيير، لأن الأرجح هو أن أى قوات مسلحة تقوم على فكرة جوهرية هى الدفاع والحماية لا الهدم والتغيير. ولا يمكن الاعتداد فى مناقضة هذه الحجة باستدعاء الحالات التى قامت فيها القوات المسلحة بانقلابات، فالانقلابات فى جوهرها تناقض طبيعة القوات المسلحة النظامية وتنفذ فى الغالب بعيدا عن القيادة القائمة. أما القوات المسلحة كمجتمع منظم فهى فى الغالب الأعظم منضبطة بأوامر قيادتها وعلى اتساق مع الأحوال الغالبة التى تستقر عليها المجتمعات.
هذا التوصيف لا يقدح فى الدور التاريخى الذى قامت به القوات المسلحة المصرية بانحيازها الشجاع إلى الثورة الشعبية، لكن القصد منه فقط إبراز المحددات التى تعمل القوات المسلحة فى إطارها. ويتوقع أن تبقى القوات المسلحة الفاعل الرئيسى فى فترة الأشهر الستة الأولى إلى عام كامل فى حفظ النظام وكيان الدولة، وفى اتخاذ القرارات الرئيسية لإتمام مشروع الثورة (تعديل الدستور، حل البرلمان ومجلس الشورى، تكوين الحكومة..إلخ).
لكن دور القوات المسلحة المباشر فى اتخاذ القرارات السياسية المصيرية سيتراجع بعد ذلك لمصلحة المؤسسات السياسية الجديدة التى ستقوم، والتى ستكون تحت مؤثرات القوى الأخرى والسياق الذى تتحرك فيه كما هو موصوف أدناه. برغم ذلك، لن تفقد القوات المسلحة دورها فى السياسة المصرية فقدانا تاما، خصوصا فى ظل بقاء الخطر الإسرائيلى وظلال الحرب المخيمة. ستبقى القوات المسلحة قوة موحية ورمزا وطنيا تتجسد فيه فكرة الأمة المصرية، ومن ههنا ستكتسب تأثيرها فى السياسة لا من التدخلات الانقلابية المباشرة.
تلى القوات المسلحة فى التأثير وتماثلها فى الصلابة ما أسميه البيروقراطية الشعبية التى هى جماع القيم وأنماط التفكير ومحددات السلوك التى كرستها خبرات تاريخية متراكمة، وجغرافيا طبيعية وبشرية قاسية، ونظم إدارة لم تتغير كثيرا، على الأقل فى الريف المصرى، منذ آلاف السنين. هذه البيروقراطية الشعبية، التى قد يستخف بعضنا بدورها، لأنها ليست كيانا متجسدا، تستمد قوتها فى التأثير الباطنى على الأفراد ومجتمعهم. قد تتبدى أظهر ما تتبدى فى البيروقراطية الديوانية المعلومة، لكنها أيضا تتعداها إلى معاهد التعليم والجامعات والأسواق والنوادى والأحزاب والجمعيات. ومن الطبيعى أن تكون هذه البيروقراطية عامل جمود ومحافظة ومقاومة للتغيير. وسيتبين لك الدور الذى ظلت تقوم به هذه البيروقرطية فى تضييق فرص الشباب فى القيادة عندما تستعرض الطبقة القيادية فى أى مرفق من مرافق الحياة فى مصر (الأحزاب السياسية، النوادى الرياضية، الشركات.. إلخ) لتجد أن متوسط أعمار القيادات لا يقل عن السبعين عاما. صحيح أن الطبقة المتوسطة النامية فى مصر، والتى أسهمت بدور كبير فى الثورة الشعبية، هى فى حالة تمرد مستمر على هذه الذهنية، لكن الطريق نحو القضاء عليها لايزال طويلا وستبقى هى بذلك محددا مهما لسياسة التغيير والتجديد.
القوة الثالثة المؤثرة هى ما ستحدده صيرورة الثورة الشعبية التى طغت مناظرها القوية والموحية على الحدث السياسى. وبما أن وصف صيرورة هو وصف مبهم فإننى أفضل أن أصفها بالحالة الثورية الشبابية. واختيارى لهذه التسمية هو محاولة لالتماس أهم العناصر المكونة للثورة والتى جعلت الحدث التاريخى الفريد ممكنا. إن أقوى مكونات الثورة هو الحلف ذو القوة الساحقة بين الشباب، بطاقاتهم الخلاقة وتطلعاتهم من ناحية، وتكنولوجيا الاتصال وإمكاناتها الرهيبة من ناحية أخرى. لقد أسميتها حالة ثورية لأنها من حيث تنظيمها وأفكارها بلغت حدا من المرونة اقتربت به من السيولة التامة، وقد كانت هذه الصفة، للمفارقة، أقوى أدوات تأثيرها.
تماما كما أن الماء والهواء، برغم سيولتهما، أو ربما بسبب سيولتهما، يشكلان أقوى عوامل التعرية والنحت والتشكيل فى الطبيعة. والمعلقون على الشكل التنظيمى لتلك الحالة الثورية لاحظوا غلبة التنظيم الجماهيرى العفوى على حساب التنظيم الحزبى أو النقابى. إن هذا التخلق التنظيمى المتبدل وغير التقليدى قد أكسب الثورة لا مركزية قاتلة مكنتها من أن تتجلى فى كل قرية، وكل كفر، وكل مدينة، وكل ميدان، وكل ساحة. واستطاعت بذلك التشكل المتعدد أن تربك واحدا من أقوى أجهزة الأمن عدة وعددا وتنظيما، وجعلته يتلفت فى جميع الاتجاهات دون أن يتبين إلى أين يوجه ضرباته، وهنا كمنت أقوى وسائل تحييد الآلة الأمنية ثم هزيمتها هزيمة نكراء.
أما من حيث الأفكار التى عبأت الثورة فإن غياب الشعارات الأيديولوجية أو المذهبية قد مكن المصريين من تحقيق حالة إجماعية نادرة لخصها الشعار المبسط الفريد الذى رددته الجماهير بتصميم رتيب يصدّع الصخور بقوته ونفاذه: «الشعب يريد إسقاط النظام». وما كانت الثورة بحاجة إلى أكثر من هذا الهتاف.
إن بقاء الحالة الثورية الشبابية وقوة تأثيرها رهين بأن تحافظ على لا مركزيتها فى التنظيم، وعلى خفاء قيادتها وتماهيها مع المجتمع الشبابى. إن أول محاولة لتجسيد قيادة معلومة لهذه الحالة الثورية سيمكن أعداءها من أن ينصبوا منها صنما يرجمونه، لأنها ستشبه عندئذ القيادات السياسية التقليدية التى يسهل جعلها هدفا للانتقاد والتحطيم. أقوى فرص الحالة الثورية الشبابية هى أن تظل كما هى: حالة بلا قيادة مركزية، وقوة خفية تعتمد فى نفوذها على توظيف طاقات الشباب بمختلف توجهاتهم، وحركة تطوّع تكنولوجيا الاتصال العصرية وتستخدمها الاستخدام الأقصى والأفعل.
القوة الرابعة هى القوى السياسية المنظمة التى أميل إلى تصنيفها ضمن القوى المرنة باعتبار قابليتها لتجديد أفكارها وأنماطها التنظيمية بما يتوافق مع التحديات الآنية. هذه الأحزاب تتفاوت تفاوتا كبيرا فيما بينها وفى قدرتها على التأثير فى المرحلة المقبلة، لكننى سآخذ حركة الإخوان المسلمون أنموذجا. قد يفضل بعضهم تصنيف حركة الإخوان المسلمون على أنها قوة صلبة وليست مرنة باعتبار نزعتها السلفية التى تميل، ليس فقط إلى استبقاء القديم، وإنما إلى البحث عما اندثر منه من أجل بعثه. وبغض النظر عما فى هذا التشخيص من ابتذال لفكرة السلفية، فإن المتعمق فى منحنى تطور حركة الإخوان المسلمون منذ أن بدأت دعوية نحو نهاية العقد الثالث من القرن العشرين، مرورا بطور العسكرة فى نهاية العقد الخامس، ثم الاضطهاد السياسى والملاحقة والإقصاء فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، انتهاء إلى مرحلة النضج السياسى الراهنة، سيكتشف مرونة كبيرة لدى الحركة فى تنويع أنماطها التنظيمية، وتجديد أفكارها، والقدرة على تحديد الأولويات، والتعايش السلمى مع بقية القوى المكونة للنسيج السياسى المصرى. هذه الخصائص ستجعل من حركة الإخوان المسلمون أهم فصيل سياسى منظم فى المرحلة المقبلة، وهو ما سيتيح فرصة غير مسبوقة للتيارات الإسلامية الأخرى فى العالم الإسلامى لأن تحذو حذوها فتكون أكثر ارتباطا بشعوبها، ومن ثم أقوى نفوذا فى إطار النظم السياسية التى تعمل بداخلها.
القوة الخامسة هى القوى الخارجية ومخططاتها فى المنطقة، وتحديدا الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل. هذه القوى انتهازية بطبعها وبطبيعة نظرتها الضيقة لمصالحها. من هذا المنطلق فإن آخر ما ترجوه تلك القوى هو أن ترى مصر قوية فى ذاتها، مؤثرة فيما حولها. لكن هذه القوى ستظل تغلف مواقفها ومطالبها بأغطية وشعارات إنسانية مثل حقوق الإنسان والديمقراطية، بينما تهدف أفعالها فى الحقيقة إلى إضعاف مصر من خلال آليات العقوبات والديون وتخفيض الإعانات. وستكون مثل هذه الإجراءات والسياسات من قبل الغرب مؤلمة فى البداية لأنها يمكن أن تؤخر من تعافى الاقتصاد وتحسين الظروف المعيشية، وهما بطبيعة الحال ضمن المطالب الرئيسية من الجماهير الثائرة. لكن بمقابل هذا المحذور هناك فرصة مصر الحرة الديمقراطية فى أن تصبح أقوى ماكينة اقتصادية فى المنطقة، وربما فى إفريقيا، بحكم موقعها الجغرافى وحجم سكانها ومواردها البشرية.
تعرض الوصف السابق إلى أهم القوى المؤثرة فى مصير الثورة دون أن يتعرض للسياق الذى تعمل بداخله. والسياق بالطبع ليس بأقل أهمية من القوى نفسها فى إحراز النتائج وتحديد المصير. إن أهم معطيات السياق فى اللحظة الراهنة هى الحالة المعيشية للمواطن المصرى. ومهما كان حسن الظن فيما سيأتى به التغيير الثورى من إصلاح اقتصادى ومحاربة للفساد، فإن النتائج الإيجابية لجهد كهذا لا يمكن توقعها بين عشية وضحاها، خصوصا فى ظل النزعة المطلبية والتوقعات العالية التى تعقب الثورات الجماهيرية. وتظهر هذه النزعة وتتجلى يوما بعد يوم فى التظاهرات المطالبة بتحسين شروط الخدمة، حتى ممن كانوا فى خط الدفاع الأول عن النظام القديم.
من ناحية ثانية فإن أهم حقائق السياق السياسى الآن هو الصراع مع إسرائيل الذى بلغ أشد مراحله تعقيدا بالانتصار النهائى الذى حققته القوى الصهيونية المتطرفة فى الساحة الإسرائيلية، وذلك فى ظل انقسام فلسطينى حاد. ومن ناحية أخرى هناك تنامى فرص المقاومة ضد إسرائيل فى الشارع العربى الإسلامى عامة وفى غزة ولبنان خاصة، وهى معطيات يمكن لمصر أن توظفها بفاعلية وذكاء فى ظل إجماع عربى تقوده هى، وهو مما سيضاعف ثقلها السياسى ويرغم القوى الدولية على إدخالها فى كشف حساباتها.
ثم إن من أهم السياقات التى تعنى مصر فى مستقبلها ومصيرها هو ما يحدث جنوبها فى السودان وما وراءه، وما يتصل بذلك من قضية الموارد المائية. ومن المفارقات أن يكون عام 2011 عاما مصيريا للسودان ومصر كليهما: للسودان بحدوث الانفصال، ولمصر، بانتصار الثورة الشعبية. وقد قيل لو أن الثورة المصرية حدثت قبل عدة أعوام لما انفصل جنوب السودان. وقد يكون هذا القول صائبا، لكن جنوب السودان انفصل وأحدث ذلك واقعا جديدا فى السودان بعضه سلبى وبعضه إيجابى، يتمثل فى تحرر السياسة السودانية من المسألة الجنوبية؛ كما أن الثورة المصرية قامت وأحدثت واقعا جديدا فى مصر وفى المنطقة. وقد تصدر من طرفى وادى النيل حسرات شتى على انفصال جنوب السودان، لكن من عمق تلك الحسرات تطل فرص تاريخية جديدة نحو مشروعات تكاملية توحيدية فى المنطقة إلى الجنوب والشرق والغرب من مصر والسودان، تؤسس على رؤى جديدة مشتركة نحو الأمن الإقليمى والتنمية البشرية والنمو الاقتصادى، رؤى ليست مبنية على مذهبية سياسية ولا روابط عرقية.
وأخيرا يبقى فى السياق الراهن التطلع التاريخى إلى دور مصرى تحريرى يتجاوز العالمين العربى والإسلامى إلى الدول النامية. أى انبعاث الحلم القديم بعد فترة قضاء غيبة برزخية مات أثناءها عبد الناصر والسادات، وذهب مبارك، وعبرت الجيوش المصرية القنال واستردت سيناء، وانهار الاتحاد السوفيتى «نصير الأمة العربية»، وقامت ثورة فى مصر لن تعود الأشياء بعدها ذات الأشياء.
ترى هل نطالب مصر بأكثر مما تطيقه فى هذه اللحظة التاريخية؟ قد يصح هذا الزعم! لكن الثورات هى التى تزود الشعوب بأحلام جديدة، فالشعوب بلا أحلام مجرد كتل بشرية تتلاطم بلا أهداف، محض فرائس غير واعية لقوى الإمبريالية والشر والاستكبار.
ولئن كان من حق الشعوب أن تعبّر عن نفسها بالثورة فمن حقها من باب أولى أن تحلم. وصدق الأثر: «لو تعلقت همة أحكم بالثريا لنالها».
إن من أكثر العناوين إلهاما فيما قرأت مؤخرا عن الثورة الشعبية فى مصر هو العنوان الذى صدّر به الأستاذ هيكل مقالته «عبور المصريين إلى عصر الشعوب الحرة»؛ ربما لم تعبر مصر تماما إلى عصر الشعوب الحرة لكنها وضعت رجليها فى أول الطريق نحو تلك الغاية، وستكون مسيرتها شاقة، لكنها عندما تكمل عبورها ستلتقى فى الضفة الأخرى بتركيا الجديدة الحرة تنتظرها، وسينتج ذلك اللقاء فرصة لنهضة قد لا يأتى بمثلها التاريخ مرة أخرى، ويومها، لم لا؟، قد نجد أنفسنا جميعا قد عبرنا إلى تلك الضفة الأخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.