قد لا يلتقى هانى مصطفى مصمم مواقع إلكترونية مع سيد عبدالله سائق التاكسى فى يوم من الأيام وجها لوجه، لكنهما إن التقيا فى لقاء عابر سيحمل كل منهما وجهة نظر متعارضة مع الأخرى حول استمرار اعتصام ميدان التحرير، فبينما يلخص هانى الشاب الثلاثينى موقفه قائلا: «هذا يكفى.. وليعد المعتصمون إلى منازلهم». على النقيض يرى سيد السائق الخمسينى أن «الاعتصام يجب أن يستمر لتغيير النظام بأكمله، لأن هذا الجيل حقق ما لم تحققه الأجيال السابقة، ويجب أن ينجز الشباب مهمتهم تماما». هذان الرأيان ليسا حكرا على هانى مصطفى وسيد عبدالله بل هى حالة تسيطر على الشارع بين مؤيد ورافض لاستمرار الاحتجاجات، وهى الحالة التى بدأت تظهر أخيرا داخل ميدان التحرير نفسه على يد المارة حين يحاول بعضهم دخول الاعتصام ومجادلة المعتصمين حول جدوى الاعتصام حتى رحيل الرئيس مبارك. اتخذ هانى مصطفى موقفه النهائى بعد حيرة على مدى الأسابيع الماضية، يشرح قائلا: «حتى الآن أشعر بالقلق، لا أعرف من يقود البلد فعلا، ولا أشعر بالأمان، يكفى أن الفترة الماضية كانت جحيما بعد انفلات الأمن، وكنا نقضى ليالى فى حراسة الشوارع دون نوم، وكلها أمور لم أعتدها فى حياتى.. هذه المواقف جعلتنى أشعر بأن من يجلسون فى ميدان التحرير لا يشعرون ببقية الناس فى مصر. أنا على سبيل المثال لا أعرف إن كانت الشركة التى أعمل فيها ستتأثر فى الفترة القادمة أم لا». لا ينكر هانى المكاسب التى حققها المتظاهرون فى الفترة الماضية وأنه لولا تضحيتهم لما تغير المناخ العام إلى حد كبير، لكنه لا يخفى عبارات مثل: «أخشى من الانقسام والفتنة فى المستقبل، لا أحد يتحمل أن يقتل مصرى مصريا آخر مرة أخرى». هذه العبارات نفسها كانت تدور فى رأس سيد عبدالله سائق التاكسى الذى عاش قلقا مضاعفا بعد 25 يناير، حين اضطر إلى أن يتوقف عن العمل لعدة أيام ثم العودة فى ظل حظر التجول، يضيف قائلا: «يوم الجمعة الأولى فى المظاهرات كانت قنابل الغاز المسيل للدموع تمر من فوق التاكسى، وهو مشهد لم أره منذ السبعينيات، فى البداية لم أنشغل، لكن مع ما لمسته من صبر المعتصمين هناك، وما تعرض له بعضهم من قتل وترويع، كنت أشعر بالخزى حين أسمع دعوات ترحيلهم من الميدان، رغم أن كثير من زملائى يرفضون وجهة نظرى». ما ينقله سيد عبدالله من وجهة نظر هى التى جعلته يتسامح مع نجله الطالب بكلية التجارة فى الحضور إلى ميدان التحرير رغم إصرار الوالد على أن يعود الابن قبل حظر التجول. تلك القناعة نفسها هى التى جعلته ينفعل فى شارعه على أحد العاملين فى وزارة الداخلية حين توعد المعتصمين بأن نهايتهم سوداء حين يعود الأمن. حسب عبارة سيد عبدالله: «هناك نماذج فى حياتنا يجب أن تختفى، ولا أمل فى التغيير إلا عبر هذه الثورة». بعيدا عن تفاصيل الشارع يدور نفس الجدل عبر شبكة الانترنت بين المؤيدين والمعارضين حول استمرار الحركة الاحتجاجية فى مشهد شبيه بما يحدث داخل المواصلات العامة فى المدن المصرية، وتكاد تتلخص حجة أنصار اعتصام التحرير فى عبارة عبر عنها أحدهم على صفحته فى فيس بوك قائلا: «لولا استمرار الاعتصام فى التحرير لما أفرجوا عن وائل غنيم ولما حصلنا على بعض حقوقنا، لذا علينا أن نستمر حتى نحصل على جميع حقوقنا». يرى الدكتور أحمد زايد أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة أن ما يحدث الآن من استمرار الاعتصام فى ميدان التحرير هو «حركة غضب لا نهائية، لا بد أن يتبعها التدبر العقلى والتفكير العملى حتى لا يتأثر الصالح العام». وكان الدكتور زايد فى دراسة سابقة عن الثورات المصرية قد استنتج أن أغلب الثورات المصرية منذ الثورة العرابية مرورا بثورة 1919 انتهاء بثورة 52 كانت تقودها فئة من المجتمع نيابة عن الشعب، أما بالنسبة للأحداث الأخيرة فيعلق قائلا: «عيب هذه الأحداث الأخيرة أنها بلا قيادة أو رؤية بديلة ما جعل روحها تتأثر بالفيس بوك حيث ما سميته بالحرية السيبرية، حيث لا قيود، كذلك فهى ليست ثورة ضد احتلال أجنبى مثل الثورات السابقة، لذا ففكرة التغيير الجذرى السريع، وإسقاط النظام كاملا أراها غير عملية، يجب أن يكون هناك تغيير تدريجى.. ومراعاة الصالح العام والفئات الأخرى من المجتمع التى قد تتضرر اقتصاديا». هذا الرأى يختلف عن رأى الدكتور شريف يونس مدرس التاريخ بجامعة حلوان إذ يرى أن «انضمام فئات من العاطلين والذين على الحياد الآن قد يمارس ضغطا أكبر على السلطة، لأن هذه الثورة إذا أخمدت ستعود المؤسسات التقليدية إلى مشاكل العهد الماضى». ويضيف الدكتور شريف يونس أن تعامل النظام الحاكم مع الشعب هو الذى يدفع إلى مزيد من الاحتجاج، ويقول: «النظام احتقر الشعب بعدم تلبية طلب رحيل مبارك، وظهر ذلك فيما قدمه على شاشاته من تشنيع على الجماهير، ورغم كل هذا القمع فقد علم الناس من هو المتحضر ومن هو البربرى فى العدوان الأخير على المعتصمين فى التحرير». رغم اختلاف موقفهما حول استمرار اعتصام التحرير فإن الدكتور أحمد زايد يرى أن خطورة المرحلة القادمة على المجتمع فى أن ينشأ صراعا بين النخب السياسية وأن تنتقل العدوى إلى الشعب وينتهى بنا الحال إلى نموذج لبنان، بينما يعبر شريف يونس عن قلقه من أن تنتهى هذه المرحلة بتغييرات شكلية ودون تحقيق مطلب المعتصمين كدليل على الديمقراطية. وبعيدا عن جدل الشارع تستمر حملات دعم الاحتجاجات على موقع فيس بوك مثل صفحة: محاكمة المسئولين عن تنظيم مسيرة تأييد مبارك البربرية للهجوم على متظاهرى التحرير، وعلى الجانب الآخر تظهر مجموعات أصغر مثل: الشعب يريد إخلاء الميدان. ليستمر الجدل حول مستقبل الاحتجاجات فى المرحلة القادمة.