القمة العربية الأخيرة واجهت عدة قضايا عربية ملحة من السودان إلى فلسطين إلى العراق إلى لبنان إلى الصومال إلى المصالحة العربية والمصالحة الفلسطينية إلخ.. طبعا هذه مسائل لا يمكن حلها بين يوم وليلة. ويوما القمة لم يكونا كافيين حتى لتناولها بصفة عامة. ولكن لم يكن على جدول أعمال القمة الوضع فى موريتانيا الدولة العربية الأفريقية التى جمد الاتحاد الأفريقى عضويتها بعد الانقلاب العسكرى فيها منذ تسعة أشهر وإقصاء رئيسها سيدى محمد ولد الشيخ عبد اللاهى. الوفد الموريتانى حضر القمة العربية ولكن لن يستطيع حضور القمة الأفريقية بعد شهور قليلة، لأن الاتحاد الأفريقى لا يعترف بالأنظمة التى تتولى الحكم فى الدول الأفريقية بطرق غير دستورية. الاتحاد الأفريقى طبق هذا القرار منذ شهور على قادة انقلاب غينيا ومنذ أسابيع على قادة انقلاب مدغشقر. هذا إضافة إلى أن الاتحاد الأفريقى يعتزم توقيع بعض العقوبات على عدد من القادة العسكريين والمدنيين فى موريتانيا بعد إن لم تتم العودة إلى الحكم الدستورى فى فبراير الماضى، وهو الموعد الذى كان قد حدده وتبين له عدم استجابة قادة الانقلاب لذلك. ما الذى حدث؟ ألاحظ أن وسائل الإعلام الأفريقية والدولية تتابع باهتمام تطورات الوضع فى موريتانيا على عكس وسائل الإعلام العربية التى قلما تتناولها، حتى بعد قيام العقيد معمر القذافى بالتدخل فيها باعتباره رئيسا للقمة الأفريقية. تحرك القذافى جاء أيضا بمبادرة ما يسمى باللجنة الدولية الاستشارية التى تضم عدة منظمات مهتمة بالشأن الموريتانى شكلها مجلس الأمن والسلم التابع للاتحاد الأفريقى بالمشاركة مع جامعة الدول العربية وفرقاء آخرون من ضمنهم الأممالمتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامى ومنظمة الفرانكفونية وتتخذ من باريس مقرا لبعض اجتماعاتها. موريتانيا منذ الاستقلال لم تنعم برئيس منتخب فيما عدا الرئيس السابق الذى تم الانقلاب الأخير «الحالى» عليه حتى أنه يقال إنها أصبحت بلد الانقلابات بامتياز فى العالمين العربى والأفريقى ولو أنها كانت فى أغلبها انقلابات غير دموية. الجيش الموريتانى جيش وطنى لا شك يحرص على مصلحة البلاد ولكن بعض قادته يعتقدون أن الجيش يجب أن يتولى الأمور بنفسه؛ لأن المدنيين فشلوا فى إدارة البلاد وقصروا فى معالجة الأزمات الاقتصادية المتتابعة وتغاضوا عن الفساد والمحسوبية. الموريتانيون بطبعهم مسالمون ولا يتجهون نحو العنف فى معاملاتهم، وهى بلد المليون شاعر كما يقال، وعروبتهم لاشك فيها. فى الأشهر الأخيرة قامت شخصيات دولية بزيارة نواكشوط بأمل إقناع القادة العسكريين بالعودة بالبلاد إلى الحكم الدستورى ومنها رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقى، إضافة إلى زيارات عديدة لمسئولين فى الجامعة العربية ودول أوروبية.الهدف بالطبع هو التنسيق بين هذه المنظمات التى تنتمى إليها موريتانيا بدلا من قيام كل منظمة باتخاذ قرارات وحدها دون التعاون مع المنظمات الأخرى. وتحت الضغوط الدولية والإقليمية وحتى المحلية، اضطر قادة الانقلاب إلى الإفراج عن الرئيس المخلوع من الإقامة الجبرية فى منزله، ولكن هذا الإفراج لم يجعله يعود إلى منصبه أو يتمتع بحرية الحركة ومخاطبة الجماهير وأنصاره. بعد «الإفراج» عنه قام قادة الانقلاب ومؤيدوهم بعقد سلسلة من مشاورات وطنية داخلية حول سبل العودة إلى المسار الديمقراطى، وانتهت بالتوصية بعقد انتخابات رئاسية فى أوائل يونيو المقبل، ولكن هذه التوصيات لم تلتزم بشروط الاتحاد الأفريقى بمنع قيادات الانقلاب من الترشح للانتخابات إلا أن هؤلاء القادة فى رأيهم لا يوجد ما يمنعهم من الترشيح ما دام الشعب يريد ذلك ولذلك قام الجنرال عبدالعزيز بالترشيح للرئاسة بعد تقديم «استقالته» كقائد للانقلاب من القوات المسلحة. خلال القمة الأفريقية الأخيرة فى يناير الماضى أعلن أعضاء المجموعة الاستشارية الدولية حول موريتانيا أن المبادرة بعقد جلسات استماع تشاورية فى أنحاء موريتانيا لا تكفى، إذ لم تشارك فيها كل القوى السياسة فى البلاد، وأن التوصيات التى خرجت عنها لم تلبى اشتراطات المجتمع الدولى بالعودة إلى الحكم الدستورى. ولذلك قرر الاتحاد الأفريقى برغم معارضة الجامعة العربية فرض عقوبات على موريتانيا وتكليف العقيد القذافى بالتوسط فى الأزمة بهدف عودة البلاد إلى الحكم الدستورى. تمت دعوة الرئيس المخلوع إلى طرابلس ثم سافر القذافى بنفسه إلى موريتانيا، حيث اجتمع بقادة الانقلاب وأم الصلاة فى ذكرى مولد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأعلن انتهاء العقوبات ضد موريتانيا. ولكن أنصار الرئيس السابق والمعارضة أعلنوا انسحابهم من الوساطة؛ لأن العقيد القذافى فى رأيهم انحاز إلى قادة الانقلاب، وقال إن الانقلاب أصبح أمرا واقعا وأن الانتخابات المقبلة فى يونيو ستكون عادلة ولا يمكن تغيير أى شىء. ولهذا لا يتوقع قبول الاتحاد الأفريقى لأى توجه لإلغاء العقوبات ضد موريتانيا فى الوقت الحالى، بل على العكس اجتمع مجلس الأمن والسلم الأفريقى وأكد استمرار توقف عضوية موريتانيا فى الاتحاد الأفريقى. كيف يمكن الخروج من المأزق الحالى إذن؟ هل نترك الموريتانيين وحدهم لكى يحلوا مشاكلهم بأنفسهم؟ هل تتخذ جامعة الدول العربية موقفا مشابها للاتحاد الأفريقى بعدم الاعتراف بالأنظمة «العربية» التى تأتى عن طريق الانقلاب؟ لا أعتقد أن العرب على استعداد لذلك فهم عادة يقبلون بأى قائد عربى متى استقرت السلطة فى يده، على عكس دول الاتحاد الأفريقى التى اتخذت قرارا حاسما منذ عدة سنوات، كما قدمنا، بعدم الاعتراف بأى نظام أفريقى يأتى عن طريق الانقلاب العسكرى. يلاحظ أن قائد الانقلاب الجنرال عبدالعزيز بدأ حملته الانتخابية ووعد الناخبين بخفض أسعار الكهرباء والماء بالرغم أنه غير مرشح رسميا حتى الآن إذ لم يفتح الباب بعد لتقدم المرشحين للانتخابات. وتقول السلطات الموريتانية إن «الانتخابات» الرئاسية ستتم تحت إشراف الاتحاد الأفريقى واتحاد المغرب العربى وتجمع دول الساحل والصحراء. لا أعتقد أن الاتحاد الأفريقى سيقبل ذلك فضلا عن وجود الخلافات بين أعضاء الاتحاد المغاربى حول الموقف من الانقلاب. أما تجمع الساحل والصحراء فقد يقبل بعض أعضائه. هناك أيضا تحذيرات من المجموعة الدولية الاستشارية بعدم الاعتراف بانتخابات تجرى من جانب واحد، ولكن فرنسا شذت عن ذلك وأعلن وزير خارجيتها أن قائد الانقلاب يمكنه الترشيح لانتخابات الرئاسة إذا ما استقال من « منصبه» قبلها بشهر ونصف مدعيا أن هذا هو موقف رئيس المفوضية الأفريقية، وهو أمر غير صحيح، بل إنه طلب من الرئيس المخلوع عدم الترشيح. توجد عدة سيناريوهات للحل. الأول وهو حل مثالى يتضمن عودة الرئيس المخلوع إلى منصبه السابق أى يصبح مرة أخرى رئيسا للبلاد باعتراف وقبول جميع الطوائف السياسية بما فيها قادة الانقلاب، ولكن ليس من المتوقع قبول قادة الانقلاب ذلك. الحل الثانى هو عودة الرئيس المخلوع إلى منصبه لفترة قصيرة يستقيل بعدها وتقام انتخابات رئاسية مفتوحة لجميع الطوائف السياسية بما فيها قادة الانقلاب. المشكلة هنا أن قادة الانقلاب غير متحمسين لهذا الحل، إذ سيعنى قبولهم عودة الرئيس المخلوع ولو لفترة قصيرة. الموقف بالفعل فى طريق مسدود، قادة الانقلاب يؤكدون أن الانتخابات الرئاسية المفتوحة بمشاركتهم ستتم فى الموعد الذى قرروه، وأنصار الرئيس المخلوع يصرون على عودته أولا. هل نطمع أن يخصص القادة العرب بعض وقتهم حتى فى مشاورات جانبية لبحث هذا الموضوع، فموريتانيا والوضع فيها حتى ولو لم تحتل الأولوية أو صيغة الأزمة المحتدمة، لا يقل فى أهميته عن الوضع فى السودان، وهذه قصة أخرى. كان الله فى عون العالم العربى، هل ننتظر مثلا إلى القمة العربية المقبلة فى طرابلس؟