«الجهل بالتاريخ أحيانا يؤدى إلى الهلاك». هذه الحكمة التى خرجت بها من دراسة التاريخ، إذ يساعد الجهل بالتاريخ الآن على جر الأمة المصرية إلى معارك جانبية تجاوزتها منذ زمنٍ طويل. وهناك العديد من الأمثلة على ذلك؛ إذ نهض دعاة الفتنة مؤخرا ولبسوا ثياب العارفين بالتاريخ، وطرحوا قضايا على أنها حقائق ثابتة، بينما التاريخ قد تجاوز كل ذلك العبث منذ فترات طويلة. إذ طرح دعاة الفتنة مسألة الجزية، وضرورة فرضها من جديد على الأقباط. بينما التاريخ يثبت أن الجزية ما هى إلا ضريبة «دفاع» سقطت عن الأقباط منذ منتصف القرن التاسع عشر بإلغاء الجزية، والسماح لغير المسلمين بالدخول إلى الجيش. وخرج علينا آخر بأن المسلمين فى مصر المعاصرة ما هم إلا سلالة العرب الغُزاة، مع الغزو العربى لمصر. ولا يعلم هؤلاء أن من دخل من العرب إلى مصر ليس إلا قبائل معدودة، تكاد تكون معروفة إلى اليوم، وأن الغالبية العظمى من مسلمى اليوم ما هم إلا أقباط الأمس الذين تحولوا إلى الإسلام خلال عدة قرون. لكن الطامة الكبرى خروج ما يسمى تنظيم القاعدة فى بلاد الرافدين (العراق) ليعلن استهداف الأقباط وكنائسهم ما لم يفرجوا عمن سماهم «المسلمات الأسيرات»، ويقصد بذلك بعض من راجت حولهن روايات عن تحولهن إلى الإسلام. وهكذا، فى آخر الزمان تأتى قاعدة العراق لتُهدِّد البلد الآمن «مصر» بشبح الحرب الأهلية. ويحتكر هؤلاء الفهم الصحيح للإسلام وهم عنه بعيدون، لم يفهم هؤلاء المتطرفون سماحة الإسلام؛ ولم يقرأوا للأسف التاريخ الإسلامى ليدركوا مدى وجوب حماية غير المسلمين. إننا نسوق هنا أمثلة واقعية من خلال سجلات المحاكم الشرعية فى مصر فى القرن السابع عشر توضح الوجه الحقيقى لسماحة الإسلام، والتطور الطبيعى لتاريخ مصر من مفهوم الرعية إلى مفهوم المواطنة. تعرض لنا محكمة المنصورة الشرعية فى القرن السابع عشر لوقائع قضية رفعها قاضى المحكمة إلى المفتين على المذاهب الأربعة للإفتاء فيها حسما لها. يذكر القاضى أن هناك جماعة من الأقباط ساكنين فى مدينة المنصورة «بأملاكهم عن آبائهم وأجدادهم»، ولكن هناك زاوية إسلامية تجاور مساكنهم، ولذلك يتعرض لهم بعض المسلمين «بالأذية والإضرار»، ويستعين هؤلاء المتطرفون ببعض رجال الإدارة لإيقاع الأذى بالأقباط وممتلكاتهم. ويدعى هؤلاء بأن الأقباط يقومون بتعلية مساكنهم أعلى من أبنية المسلمين، وبذلك يكشفون عورات المسلمين، كما يفسر ذلك أيضا بعلو مكانة الأقباط على المسلمين. وهنا يسأل القاضى المفتين: هل والحال كذلك، هل يجوز للجماعة المذكورين أذية الأقباط المذكورين؟ وتأتى إجابات المفتين الأربعة غاية فى الاعتدال والنزاهة، وتماشيا مع الوجه الحقيقى للإسلام، والتجربة التاريخية للتعايش التى عرفتها مصر. إذ يُجيب مفتى المذهب الحنفى بعدم جواز أذية الأقباط المذكورين «بالتساويف الباطلة عليهم والتعللات الواهية»؛ ويُفتى أيضا بتحريم ذلك، بل ويضيف إضافة غاية الأهمية، موضحا أهمية دور الدولة فى إقامة الاستقرار الاجتماعى وحقوق الرعية «ويُثاب ولى الأمر على منع من يتعرض لهم الأقباط بغير وجه شرعى». ويتوافق المفتى المالكى مع ما جاء فى الفتوى السابقة، ويُضيف إليها إضافات لا تقل عنها أهمية؛ إذ ينص مفتى المالكية على الحرية التامة للأقباط فى أبنيتهم، على عكس ما يرى المتطرفون، وينص على حقوق الرعية قائلا: «وإن كانوا نصارى، هم من جماعة الرعية، وكل راعٍ مسئول عن رعيته»، موضحا أهمية دور الدولة، وحقوق الأقباط عليها. ويذهب المفتى الشافعى مسافة أطول فى هذا الشأن، حول أهمية حماية الرعية حتى من غير المسلمين، لأنهم «رعية». إذ يُلزم الحاكم بتوقيع العقوبات على من يعتدى على الرعية: «من حبس، أو ضرب، أو نفى، أو غير ذلك باجتهاد الحاكم». كما يرى أيضا أن من استحل ظلم الأقباط «كفر، ويخرج عن الإسلام، وجرت عليه أحكام المرتدين». ويُعلِّل ذلك بأن النبى صلى الله عليه وسلم قد أوصى بأهل الذمة فى أحاديث كثيرة، وبالتالى فمن يُخالف تعاليم الرسول يستحق العقاب. ولا تخرج فتوى المفتى الحنبلى عن الفتاوى السابقة، إذ يُحرِم هذا الفعل ويُجرمه أيضا. هكذا أصدرت المحكمة الشرعية حكمها فى صالح الأقباط، وهكذا أيضا يتبين لنا الوجه الحقيقى للإسلام، ويقدم لنا التاريخ صورة عن التجربة التاريخية للتعايش فى مصر. هذه التجربة التى للأسف يأتى علينا زمن نتلقى فيه فتاوينا من قاعدة العراق، وقاعدة أفغانستان، وباكستان، بينما لدينا تاريخنا وإسلامنا ومصرنا، لمصر لا لابن لادن.