هذه السلسلة الجهنمية التى تتكاتف من أجل هدف واحد، وهو محو الإرث الإبداعى والفكرى وإلغاؤه، وعندنا لكل طريقة نماذج عديدة، فمثلا المفكر سيد قطب فرض الحظر على كل كتبه الأولى التى نشرها قبل انحيازه المطلق إلى الدعوة الإسلامية، واعتبر أن كل ما كتبه قبل ذلك ينتمى إلى مرحلته الجاهلية، لذلك لم تر النور فى حياته رواياته «المدينة المسحورة» و«أشواك» و«طفل فى القرية»، بالإضافة إلى ديوان شعره «الشاطئ المجهول»، وكتابه الرائع «النقد الأدبى أصوله ومناهجه» ثم «كتب وشخصيات». أما بعد اغتياله فتعززت سلطات الخطر والمنع، فزادت عنفا وقهرا، فالسلطة التى أعدمته، حاولت إعدام تراثه معه، ثم جماعته أيضا احتجت على طباعة مصنفات معينة له، واعتبرت نشرها نوعا من تشويه سيد قطب، ونسى كل هؤلاء أن الحقيقة لابد أن تسطع رغما عنهم، وأن أحدا لا يستطيع منعها أيا كان، وبالطبع فهذا المنع أثلج صدور كثيرين، كما حرم القارئ الفعلى من معرفة تاريخ وملامح وقسمات هذا الرجل، وبالتالى ملامح وخصائص مرحلة لم يتعرف الناس عليها بشكل كامل، وسيد قطب كان جزءا مهما من هذه المرحلة. كذلك إسماعيل أدهم الذى تمر ذكرى رحيله السبعين فى هذا العام (إذ رحل فى يونيو 1940)، وكتب كتابات نقدية لافتة، وكتابات فكرية ذات طابع جدلى فريد فى تلك الفترة، وتبنته مجلة الحديث التى كان يصدرها سامى الكيالى فى حلب، وكتب فى مجلة «العصور» التى كان يصدرها إسماعيل مظهر، وكتب كتابا عن توفيق الحكيم، وهو أول كتاب يظهر فى العربية عن الحكيم، ثم كتابه الجدلى والإشكالى: «لماذا أنا ملحد»، ورغم وجود هذا الأخير على شبكة الانترنت، إلا أن السلطات الشرعية لا تريد أن تعترف بوجوده، ولولا جهود الدكتور أحمد الهوارى فى جمع جزء كبير من تراث هذا الرجل، لضاع واندثر تحت دعاوى تكفيره الشائعة. القائمة طبعا تطول، هناك كتاب غيروا أفكارهم، أكثر من مرة، وكتبوا لكل مرحلة ما يناسبها، مثل كتابات محمد جلال كشك التى تقلبت وتناقضت بأكثر من طريقة، فكتب قبل ثورة يوليو كتابا ينبذ فيه التعصب الدينى، عنوانه «مصريون.. لا طوائف» وهاجم فيه «الإخوان المسلمين»، ثم بعد يوليو كتب مناصرا للثورة، وهاتفا بمبادئها، ومنتميا لأفكارها، وتكفى مسرحيته الوحيدة «قرف المهنة»، التى كتبها عام 1961 وكتب مقدمتها يحيى حقى، يهتف فيها لكل ما أتت بها يوليو، أما بعد انقلابه على يوليو، كتب كتابه «ثورة يوليو الأمريكية»، و«كلمتى للمغفلين» وغيرها من كتب شرح ومزق فيها يوليو ورجالها وقادتها وكتابها وعلى رأس هؤلاء محمد حسنين هيكل. وبمناسبة الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل.. هناك كتب أظنه أسقطها من حسابه، مثل كتابه «إيران فوق بركان»، وهو أول كتاب صدر له عام 1951، ثم كتاب «أزمة المثقفين».. ثم كتاب «لا يا صاحب الجلالة».. وأظنها أنها كتب لها أهمية قصوى، خاصة أنها تنبئ عن مرحلة سياسية جديرة بالتعريف الواسع، خاصة من شهود عيان مثل هيكل، إذن هى شهادة غائبة أو مغيبة تريد منها الحضور، حتى تكتمل الصورة، قبل أن تندثر، ويكون صانعو الصورة هم أول من هدموها وشوهوها!! هناك لويس عوض وعبدالفتاح الجمل اللذان يقعان تحت طائلة العائلة، والعائلة لكليهما متعنتة، لذلك فقدنا سيرة لويس عوض الشجاعة والجريئة، وفقدنا كتابات الجمل الأدبية البديعة، ولابد أن تظهر دور نشر فى ثوب طرزان المخلص، وفى الحقيقة هى دور نشر تقوم بدور القراصنة، لأنها تنشر بدون أدنى نوع من الشرعية، ثانيا أنها تبيع الكتب بمبالغ باهظة، فدار النشر لا يهمها الكاتب ولا الكتاب ولا القارئ، ولكن يهمها المبالغ الطائلة التى ستدخل خزينتها من خلف هذه القرصنة، وقس على ذلك «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، كم أثرى الناشر الأصلى منها، وكم أثرى الذين مارسوا القرصنة على الناشر الأصلى، وأيضا كتاب «فى الشعر الجاهلى» لطه حسين، وهكذا.. وهكذا.. وهكذا. أعتذر عن طول المقدمة لأن القضية جد خطيرة، والأخطر أن أحدا من المسئولين لا يدرك ذلك، وأن المؤتمرات التى تعقدها وزارة الثقافة فى الفاضية، والمليانة، لا تناقش هذه القضية التى يضيع بسبب عدم الالتفات لها معظم تراث المصريين، وما أوردته هنا هو غيض من فيض، والمسئولون فى غيهم سادرون!! وإذا كانوا فعلا جادين فليعقدوا محورا كاملا تحت هذا المعنى فى مؤتمرهم القادم، وهو المسمى بمؤتمر المثقفين، شريطة أن تكون لهذا المؤتمر توصيات تنفذ، بدلا من أن يذهب المثقفون الأبرياء، أو الأدعياء، ليطلقوا كلمات رنانة فى الهواء وتذهب سدى بعد انفضاض المولد، وتكون كل وسائل الوفاق قد تمت، وانعقدت كل الصفقات المريبة وغير المريبة. هذه المقدمة الطويلة العريضة مجرد تداعيات لاهثة وسريعة بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل الكاتب والأديب والمفكر الدكتور مصطفى محمود «رحل فى 31 أكتوبر 2009»، وهو الذى يثير درجات من الاختلاف كثيرة جدا، خاصة فى مرحلة السبعينيات وتأييده المطلق لأنور السادات، والذى أتاح له برنامجا من أشهر البرامج الدينية وهو «العلم والإيمان»، وهو ممول تمويلا خارجيا، ثم مرحلة ما بعد الستينيات، حتى انغماسه فى تأييد التطرف، ثم مباركته لدخول أمريكا العراق تحت الدعوى الشائعة والقاتلة وهى التخلص من صدام حسين بعملية جراحية دقيقة. كل هذه الانقلابات لن تدفعنا أن نغفل مصطفى محمود فى الخمسينيات والستينيات، سنوات الشباب والاندفاع والمغامرة والإبداع غير المشروط، الإبداع الذى لا تحده سلطات ولا تشتريه أموال، الإبداع الذى لا يرهب جلادا، ولا يوقر لحية مزيفة ومتنكرة، ولا تخاف قناعا دينيا مصنوعا.. مصطفى محمود الذى بدأ فى أواخر الأربعينيات فى مجلة الرسالة وقصص للجميع والنداء، ثم كتب فى الخمسينيات فى مجلات وصحف ثورة يوليو التحرير وروزاليوسف، حتى استقر فى مجلة «صباح الخير»، ويعتبر من مؤسسيها، ومن الذين أعطوها ملامحها، وكان أحد طباخى المادة التحريرية، مع الكاتب أحمد بهاء الدين وإحسان عبدالقدوس، وهو من مؤسسى مدرسة «صباح الخير» التى ضمت بين إهابها صلاح جاهين ومحمود السعدنى وحسن فؤاد الذى صمم غلاف العدد الأول الصادر فى 12/1/1956، ومجازى الفنان وغيرهم من فرسان الصحافة الشابة المشاكسة الفتية فى ذلك الوقت، وبدأ العدد الأول بباب «اعترفوا لى» الذى ظل يكتبه مصطفى محمود لسنوات عديدة، ونشر معظم رواياته ومسرحياته بالمجلة، بالإضافة لقصصه القصيرة، والتى لم يجمع معظمها فى مجموعات، والتى تحتاج لجمع ونشر، أو على الأقل إجراء ثبت بيلوجرافى بها. كل هذا الذى قلناه عن مصطفى محمود كوم، وكتابه الإشكالى والأهم «الله والإنسان» كوم آخر، والذى صدر فى مارس 1957 فى سلسلة «كتب للجميع» عن دار الجمهورية، لأن هذا الكتاب طورد وصودر وساءت سمعته وتعرض لسب وقذف واتهامات جزافية، ومنع تداوله فى الأسواق، وبالتالى لم ينشر مرة أخرى، حتى دار الكتب لم يصبح موجودا فيها حسبما كتبت المستشرقة السويدية، «مادينا ستاج»، فى كتابها المهم «حدود حرية التعبير فى مصر» والذى ترجمه الأستاذ طلعت الشايب، وحتى مصطفى محمود نفسه لم يتعاون فى توفيره له، هل معنى ذلك أنه أسقط الكتاب من حسابه، رغم موافقته على ترجمته للغة الإنجليزية، هل يتوجه الكتاب لقارئ غير قارئه الأصلى؟ وهل يمنع عن البلاد التى أبدعته وأنتجته؟.. ولكن لماذا كل هذا؟ لماذا الشجب والمنع والقمع والمصادرة والمطاردة؟ ونحن فى عصر الحريات، وعصر السماوات المفتوحة، وعصر الانترنت، لماذا يظل كتاب مثل هذا غائبا عن قارئه كل هذه العقود؟ وبفعل السلطات الدينية مرة، وبفعل المؤلف مرة أخرى، وبفعل السلطات السياسية مرة ثالثة، والمظلومان الأساسيان فى كل هذه القصة هما القارئ والكتاب، فمن حق الكتاب أن يوجد، ومن حق القارئ أن يدرسه، ويكون بين يديه بعيدا عن أى وصاية تفرض سلطتها ورأيها. والجدير بالذكر أن محمود أمين العالم صديق مصطفى محمود وزميله وجاره فى مجلة روزاليوسف كتب مقالا طويلا عن الكتاب فى مجلة الرسالة الجديدة «أبريل 1957»، وتناوله بالدراسة سلبا وإيجابا، وحياه عندما قال «للكتاب أهمية فنية خاصة تتمثل فى أساليب التعبير فيه، فلغته تتميز بالتدفق والحيوية والقدرة الفائقة على الإفصاح البسيط المقنع فى غير زخرف أو افتعال، فضلا عما يزخر به من صور مصرية خالصة وحوار شعبى صادق وأمثلة عامية ممتعة، ولكنه أخذ عليه رأيه فى المرأة وأيضا التعميمات المتسرعة، ويأخذ محمود أمين العالم العلمانى على مصطفى محمود المتصوف جملته القائلة «إن كل ما تبقى من الإيمان هى الأيام المقدسة التى تحولت الآن إلى إجازات وأيام راحة». ولكن العالم لم يدرك المعنى الذى يريده مصطفى محمود، وهو أن السادة الأفاضل المستترين بأثواب يزعمون أنها دينية، هم الذين فرضوا هذه النهاية.. لذلك غضب على مصطفى محمود والكتاب حفنة من السلطات، أولهم الدراويش وأولياء الله المفتعلون، عندما يقول: «وأولياء الله.. وأصحاب الكرامات يعتمدون على التجارة أيضا فى إقامة الموالد ...يعتمدون على بيع الحمص والكشرى والملبن والغوايش والحلقان والأساور الزجاج.. وحاجة الدراويش لا تختلف كثيرا عن حاجة النشالين إلى الموالد.. فكلاهما يبحث عن مصلحة.. ولولا بترول الحجاز لظلت مكة تعتمد على زوار الكعبة كل عام لتعيش».. ثم: «إن الدين ينتعش كلما كان مورد رزق ومورد حياة.. ويدخل إلى قلوب الكثيرين عن طريق أفواههم».. ويكتب: «الدين يبقى طالما هو يؤدى وظيفة أرضية ويخدم ضرورة تحتاجها الناس»، ولا يتوقف مصطفى محمود فى طرق الأبواب دون استناد إلى كتاب مثل دستوفسكى، وفلسفة مثل نيتشه، وبرناردشو، بل الكتاب يتم عن ثقافة رفيعة مهضومة، وأعيد إنتاجها بشكل فلسفى بسيط يصل للقارئ بسهولة، وهذا ما أخاف السلطات المتعددة، وإذا كانت هذه آراءه فيما يزعمون أنهم رجال دين، فما كان رأيه فى الطغاة بأقل من ذلك.. فيكتب: «إن الكفر بحرية الانسان جريمة أقبح من القتل».. ويسترسل: «إن إنكار الحرية.. اهدار للمسئولية وانكار للأخلاق ولمغزى التاريخ ومعنى التطور.. إنه يحول الحياة إلى عبث، ويحول الآدميين إلى براويز وقوالب لا حول لهم ولا قوة»...ثم يدعو قارئه دعوة واضحة وصريحة وهاتفة: «أنت حر.. وحياتك مغامرة.. وغدك مجهول.. أنت الذى تقيم أصنامك وأنت الذى تحطمها.. فأمض فى طريقك، ولا تنس هذه الأمانة التى تحملها على كتفيك.. الحرية».. أظن أن كلاما من هذا النوع لابد أن يثير السلطات المختلفة، ويغيظها، ويدفعها لتلفيق التهم الجاهزة، مثل الكفر والإلحاد، رغم أن الكتاب لم يقترف هذين الإثمين على الإطلاق، إنه كتاب تساؤلات، وهو صرخة ضد العبودية بجميع صورها، وضد الجهل بكل أشكاله، هذا فى ظل تيه ضباط يوليو بنجومهم اللامعة، وأحذيتهم الثقيلة التى داسوا بها على كل الحريات، كان لابد أن يأتى حديث مصطفى محمود هكذا، رامزة ومقنعة، ترتدى ثوب الفلسفة والدين والحب، لكن الرسائل جميعها واضحة، والمعانى فصيحة، وما زالت جدواها فاعلة حتى الآن، فمتى تفرجون عن هذا الكتاب.. يا وزارة الثقافة، ويا اتحاد الكتاب، ويا مؤسسات المجتمعات المدنية، كيف نحمى تراث مبدعينا المصريين من الزوال، كما فعل أجدادنا القدماء.