«أوبرا» هو الاسم الرمزى لعملية القصف الإسرائيلية لمفاعل أوزيراك العراقى فى السابع من يونيو من العام 1981، وهو اليوم التالى لزيارة بيجن إلى الإسماعيلية ولقائه السادات فى تعمد واضح لترك رسالة لن يغيب مضمونها عما سيأتى من بعد، فحواها أن آخر الحروب هى حروبكم أنتم وأن استراتيجية السلام هى سلامكم أنتم وأن عليكم أنتم المصريون أن تدركوا حدود الدور الذى ستلعبونه فى قادم الأيام وأن تقرأوا جيدا نصوص ما وقعتموه معنا فى اتفاقات السلام فى مارس 1979 حيث التزاماتكم بها أولوية عما تقدرون أنه التزامات أخرى لكم فى محيطكم العربى والإقليمى. كان الأمر إذن إشارة لتغيرات منذرة حول الدور والنفوذ بل وحول القدرة والمقدرات المصرية لعقود ثلاثة تالية هى عمر معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وهى ذاتها طول حقل ألغام كثيف تخوضه مصر هندسة وبث ألغامه بمهارة رفيقا الرحلة الصعبة من خارج الحقل الولاياتالمتحدة وإسرائيل. بينما «الرصاص المصهور» هو الاسم الرمزى للحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة التى انطلقت بعد يوم واحد من زيارة وزيرة الخارجية الإسرائيلية إلى القاهرة لتعلن منها قرارا اتخذه مجلس الوزراء الإسرائيلى بكامله فى الليلة السابقة للزيارة بشن الحرب على القطاع وأنها جاءت إلى القاهرة ليست لتستأذن أحدا فى شأن من شئون الأمن الإسرائيلى، ثم إنها ذهبت قبل انتهاء هذه الحرب بيوم واحد إلى واشنطن لتوقع معها وثيقة مذكرة تفاهم حول ترتيبات منع تهريب السلاح إلى غزة تدعو إلى ترتيبات إقليمية ودولية دون اعتبار للقاهرة، وهى فى مجملها خواتيم مؤشرات التغيرات المنذرة عن أفول دور وتقلص نفوذ وتقليم مكانة. ثم إن أحداث ثلاثة مصاحبة جاءت لتؤكد على ما أصبحت عليه مصر فتقرير مجلس الاستخبارات القومى الأمريكى الذى نشر فى أواخر فبراير الماضى يتحدث عن فقد مصر الدور القيادى فى المنطقة العربية لصالح المملكة العربية السعودية لاعتبارات ثلاثة كبر سن الرئيس وتواضع القدرات القومية وغياب مقومات الدولة النموذج سياسيا واقتصاديا فى إقليمها المحيط، وهذه شهادة لا يغيب فحواها من رفيق رحلة وحليف استراتيجى طالما أشدنا برفقته، ثم إن قمة العشرين التى عقدت فى لندن فى مطلع أبريل الحالى التى يحوز أعضاؤها أكثر من 85٪ من حجم الاقتصاد الكونى ويوصف أعضاؤها بأنهم من الدول الصناعية الكبرى أو دول الاقتصاديات الناهضة الناجحة جاءت لتفرد مكانا للعربية السعودية كدولة عربية وحيدة وإحدى ثلاث دول تمثل العالم الإسلامى إلى جانب تركيا وإندونيسيا، بينما أفردت القمة مكانا لجنوب أفريقيا ممثلة للقارة السمراء بكاملها، وفى كل الأحوال لم تكن مصر هناك! كما أن اعتلاء الرئيس أوباما المنصة التركية فى السابع من هذا الشهر مخاطبا العالم الإسلامى كان إقرارا بتصاعد الدور وتعاظم النفوذ وترسيخ المكانة التركية فى شرقها الأوسط وعالمها الإسلامى. أزعم أن مصر النظام والشعب معا يدركان واقع الأمر، بل إن مسألة «خلية حزب الله» جاءت كاشفة وليست ناشئة لحقيقة إدراك النظام بوعى لهذا التردى القائم الذى أشار إليه تقرير الاستخبارات الأمريكية السابق ومن ثم جاء تعامله مع مسألة حساسة تمس وضع «الأمن القومى» بمزيج من الغضب والاستعلاء وصخب واضح فى التهديد والوعيد وانفلات متردى لمستويات لفظية كنا قد تركناها وراء ظهورنا منذ زمن بعيد، وفى كل الأحوال كان الشاهد أمامنا أننا لم ننتظر فى هدوء كما يجب نتائج قضاء قادم، كما أننا لم نتوقف للحظة لنتدبر المشهد العربى الذى بدأ متحفظا فى مستوياته الرسمية، غاضبا إن لم يكن متحديا فى غالبيته لتجاوزات الرد المصرى فى مستوياته الشعبية. أحسب أن مصر «الرئيس» عندما وقعت اتفاقيات السلام مع الطرف الإسرائيلى تحت شعارات السلام ودعاوى آخر الحروب كانت تدرك أنها فى حاجة لشراء الوقت حتى ولو على حساب ترتيبات أمنية مجحفة داخل أراضيها وعلى تخوم الخصم التاريخى ولصالحه، كان الوقت مطلوبا وكانت مسألة الصبر الاستراتيجى على أوضاع صعبة أفرزتها الاتفاقية أمرا مرغوبا طالما كان القادم خلال ذلك جهد وطنى يسترد عافية الأمة ويرتب أوضاعها الداخلية ويرقى بمقدراتها إلى لحظة يصبح فيها مطلب تعديل هذه الترتيبات الأمنية أمرا مقدورا فى إطار حقائق جديدة لتوازنات القوى ودون تورط فى أشكال من التوترات أو اقتراب من حافة صراعات مسلحة ندرك تكاليفها وتبعاتها. كما أحسب أن رفيقى الرحلة كانا يدركان منذ البدء أن مصر قدمت للتفاوض فى ظل أوضاع اقتصادية صعبة مارستها مصر فى تسيب نادر عقب صمت مدافع أكتوبر 1973 دفعت بالبشر إلى شوارعها فى يناير من العام 1977 وهو العام الذى فى خريفه غادر الرئيس المصرى إلى القدس، ثم إن مصر قدمت للتفاوض فى ظل أوضاع توازن عسكرى مختل فى أعقاب أكتوبر 73 حيث ألقت اتفاقيات فصل القوات المتتالية مع الجانب الإسرائيلى وبرعاية أمريكية بشكوكها على الجانب السوفييتى المورد الرئيسى للسلاح والذى كان عليه القيام باستعواض الموارد العسكرية التى أهدرتها الحرب الأمر الذى أبطأ بشدة عمليتى الاستعواض والتحديث معا، ثم إن مصر العسكرية بدأت راغبة بحكم احتكاكها وملامستها بل ومواجهتها لأنظمة التسليح الغربية بل والعقائد العسكرية الغربية ذاتها فى الولوج إلى ذلك العالم وهو أمر لم تكن الولاياتالمتحدة راغبة فيه ولا متلهفة عليه بأى حال عندما قدمت مصر «الرئيس» إلى حقل الألغام المعد لها بعناية، إلا أن كلا من الولاياتالمتحدة وإسرائيل وعلى قدر إدراكهما العميق بتلك الأوضاع المصرية كانا يدركان أن مصر جلبت معها الدور والنفوذ التى هى عليه فى محيطها العربى، عندما قدمت للجلوس على طاولة المفاوضات وتهيأت لأولى خطواتها عبر حقل ألغام كان يعد لها بعناية، وعلى موائد المفاوضات لا تبدو مهارة اللاعبين غالبة على حقائق القوة التى تسبق الجميع إلى قاعاتها الزاهية فكل ما يستطيع طرف أن يحققه على حساب آخر بعيدا عن حقائق توازن القوة هى صيغة دبلوماسية غامضة هنا وخطاب تحفظات أو ضمانات ملتبس هناك. لذا فالمنطق يفرض علينا عدم إلقاء اللوم جزافا على من وقع الاتفاقية باعتبار أن ما أفرزته من نتائج جاء متسقا مع خلل فى توازنات القوى على الأرض، وباعتبار أن الرغبة ربما كانت صادقة فى شراء وقت وممارسة صبر استراتيجى تستعيد فيه الأمة عافيتها، وتملك مقدرات مطلوبة ليوم قادم تصر فيه على تعديل ما وقع من ترتيبات أمنية مجحفة، كما أن المنطق يفرض علينا ألا نذهب بعيدا أيضا إلى الشوط الذى وصله السيد بطرس غالى بقوله «إن الاتفاقية أعظم انتصار للدبلوماسية المصرية المعاصرة» إذ كان عليه أن يضيف عبارة «فى ظل توازنات قوة كانت مطروحة بقوة على طاولة المفاوضات آنذاك»! فى عملية «أوبرا» يبدو أن الرجل الذى بدأ رحلة الغوص فى حقل الألغام قد تسلم الإشارة مبكرا وسريعا ما انفجر فيه أول ألغام الحقل وغادر، وكان على نظام قادم أن يستكمل رحلة صعبة وشاقة فالذين نظموا الحقل ورتبوا أرض ألغامه بمهارة عمدوا إلى تحجيم الدور وتقليص النفوذ المصرى على مدى زمنى ممتد وإلى استبقاء الخلل فى موازين القوة على النحو الذى كان عند توقيع الاتفاقية ولا مانع من توسيع رقعته كلما كان ذلك ممكنا، والأهم فى كل ذلك أن يظل النظام المصرى منهمكا فى تحسس خطواته مشغولا بالنظر إلى أسفل حيث ثبت الألغام بعيدا عن التوقف للحظة أو التسرع لبرهة أو التفكير فى لمحة لفضاء الكون من حوله. فى مجال احتواء الدور المصرى والعمل على تهميشه وتقليم أظافره كانت الأفعال حاضرة ترسل إشارتها بتبعات الغياب المصرى عن محيطه العربى التزاما بقيود فرضتها بنود الاتفاقية، فالتوغلات الإسرائيلية الزاحفة أصبحت أكثر عمقا وأشد عنفا منذ افتتاحية عملية الليطانى فى العام 1978 فى الجنوب اللبنانى، ثم جاءت عملية «أوبرا» ليس فقط شاهدة على عجز وإنما مشيرة لشبهة تورط وعلم مسبق أجاد الإسرائيليون دائما ممارستها ولصقها بالنظام فى مصر ثم إن الأمر تعمق بالوصول إلى بيروت فى عملية سلام الجليل العام 1982، وبلغ ذروته فى واقعة اعتراض المقاتلات الأمريكية للطائرة المصرية إبان أزمة خطف السفينة «أكيلى لاورو» العام 1986 فى إشارة لا تخطئها عين عن خطوط لن يتجاوزها الدور المصرى فى محيطه العربى وعن انكشافية بالغة فى صناعة القرار السياسى المصرى فى أعلى مستوياته أمام أجهزة الرصد الأمريكية فى الداخل والخارج على السواء، ثم إن مصر مارست خطأها الاستراتيجى الكبير إبان أزمة الغزو العراقى للكويت عندما شاركت فى عملية «عاصفة الصحراء» فى العام 1991 ضد العراق التى وإن جاءت فى ظل حسابات ربح عاجلة بتخفيف أعباء الديون الخارجية عليها، وفى سياق تقديرات قيمية لتحرير دولة شقيق، إلا أنها أسست بنتائجها تدميرا لاحقا لدولة الميزان العربى شرقا فى مواجهة إيران، ورسخت أقدام العسكرية الأمريكية على شواطئ الخليج وعمق يابسة لتدير بذاتها أوضاع توازنات المنطقة بحساباتها ولمصالحها فى الوقت الذى عادت فيه سفن الجنود والمعدات إلى مرافئ الوطن مصحوبة برسالة عزاء رقيقة لوقف ترتيبات أمنية جديدة كان لمصر طموح فيها تحت لافتة ما سمى آنذاك ب«إعلان دمشق»، فالآن وضح أن عصرا أمريكيا فى الخليج قد بدأ وفى مواجهته ستكون قوة غير عربية بازغة تتحسس ثغرات فراغ قوة ما هنا أو هناك للوثوب إلى داخلها وهذه طبيعة الأشياء عندما تتبدد رؤى الآخرين. هكذا وطوال حقبة التسعينيات وما تلاها بدا الدور المصرى محاصرا بدور الوسيط الناصح فى الشأن الفلسطينى حول التعامل مع نصوص مبهمة لاتفاقيات أوسلو فى العام 1993 أو مبادئ خريطة للطريق فى العام 2003 وهى فى مجملها جراحات تجميلية لمطالب أمريكية ومطامح إسرائيلية مازالت تؤسس للاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية وبالتنازل عن حق العودة وتفكيك ما يطلقون عليه بنية الإرهاب، وبالقبول فى النهاية بمناطق تزداد تشظيا وتباعدا وتقطيعا، وفى كل الأحوال فإن مصر لم تكن متهيئة بفعل قيود الدور الذى فرضه رفقاء الرحلة الولاياتالمتحدة وإسرائيل، أو لاعتبارات تحفظات عقائدية على القراءة الجيدة فضلا عن التواصل الفاعل مع قوى المقاومة البازغة لحزب الله فى الجنوب اللبنانى التى صنعت لحظة خصبة فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى طوال حقبة التسعينيات التى انتهت بأول انسحاب غير مشروط لقوات إسرائيلية من أرض عربية فى صيف العام 2000، وكذلك الأمر فى الأراضى الفلسطينية مع قوى المقاومة الإسلامية وعلى رأسها حركة حماس حيث فى كلتا الجبهتين ظل التواصل محفوفا بقيود الدور وبشكوك عقائدية شيعية هنا وسنية هناك، وكان ذلك هو المرغوب أمريكيا والمطلوب إسرائيليا فى سياق استنزاف الدور المصرى وتبديد نفوذه، الأمر الذى انعكس بحولة فى حرب لبنان صيف العام 2006 وفى عملية «الرصاص المصهور» فى غزة الشتاء الماضى، ففى الوقت الذى بدأ الخطاب المصرى الرسمى منددا بمغامرة الطرف العربى فى الأولى لائما للطرف العربى فى الثانية وعاجزا فى كليهما بفعل تآكل الدور والقوة معا على خطاب فضلا عن فعل أكثر صلابة فى وجه العدوان، فإن الطرف الإسرائيلى عمد إلى استخدام مروع غير متناسب لقوة نيران قاتلة ومدمرة تجاه المجتمعات المدنية والمؤسسات والبنية الأساسية فى لبنان وغزة على السواء على التوازى مع تمرير إشارات موحية برضاء مصرى مسبق وتورط مصرى قائم وهى فى مجملها اتسقت مع خطاب التنديد بالمغامرة فى لبنان ولوم المقاومة فى القطاع لتزيد من نحر ما بقى من تصور لدور أو ممارسة لنفوذ. هى مصر إذن فى رحلتها الصعبة عبر حقل ألغام بامتداد ثلاثين عاما ما بين لغمى عملية «أوبرا» وعملية «الرصاص المصهور» تبدو مرهقة ومنهكة.. عصبية إلى حدود غير مألوفة وهى تتداول أزمة «خلية حزب الله» وربما قبلها وربما ما سيكون بعدها.. مصر كما وصفها تقرير الحليف الاستراتيجى فى تقرير استخباراته القومية السابق متقدمة فى العمر فاقدة للقدرة لاتمثل نموذجا لمن حولها بأى حال، لكن ذات الحليف الاستراتيجى لم يكشف لنا حقيقة الدور الذى لعبه فى رص حقل الألغام خاصة فى الجانب الآخر من الرحلة، حيث الحفاظ على مستوى الخلل فى توازنات القوة لصالح الطرف الإسرائيلى فى حده الأدنى كما كان عليه فى بدء الرحلة ثم إلى مستويات أعلى مع استمرارها وتلك قصة أخرى وحديث آخر.