خلال سنوات عديدة، طلبت من عدد لا يحصى من السياسيين الأمريكيين أن يشرحوا لى منطق السياسة الخارجية وراء الحصار الأمريكى ضد كوبا. وكانوا أحيانا يتفوهون بكلمات غير واضحة بشأن أهمية الوقوف بحسم ضد القمع الحادث فى المعقل الأخير للشيوعية فى العالم. وفى قليل من المرات، كان رد الفعل هو ترديد المقولة المعروفة: إنسَ الجغرافيا السياسية، وانظر بدلا من ذلك إلى أصوات الكوبيين-الأمريكيين فى فلوريدا. فى معظم القضايا، تخلى باراك أوباما عن نهج السياسة الخارجية الذى ورثه عن سلفه. ولاشك أن هناك بعض المحافظين الجدد الذين مازالوا يطرحون أن التغيير يقتصر على الأسلوب لا الجوهر. ويقولون إنه عندما يتعلق الأمر بالحقائق القاسية، يقف الرئيس على نفس المسار الذى كان يقف عليه جورج بوش أثناء فترة ولايته الثانية. كنت قد سمعت روبرت كاجان صاحب الطرح الشهير ولكن المضلل بشأن مجىء الأمريكيين من المريخ والأوروبيين من فينوس يردد هذه المقولة خلال منتدى بروكسل الأخير حول صندوق مارشال الألمانى، حيث أشار إلى أن الاختلاف الوحيد فى السياسة الخارجية للسيد أوباما عن سلفه يتعلق بالمناخيات. ويستخدم السيد كاجان علم دلالات الألفاظ. غير أن السيد أوباما ينظر إلى العالم بعدسات مختلفة تماما عن تلك الخاصة بسلفه. فبينما سكنت إدارة بوش إلى لحظة أسطورية لعالم أحادى القطب، فإن الرئيس الجديد يدرك حدود وقدرة الولاياتالمتحدة، التى مازالت منقطعة النظير. وتعد الإشارة إلى أن أوباما يشارك سلفه فى بعض الأهداف على سبيل المثال عدم الانتشار النووى أو مواجهة إرهاب القاعدة هو من قبيل الخلط بين الأهداف والوسائل. وحتى الأوروبيين «الضعفاء» يؤيدون هذه الأهداف. لكن السياسة الخارجية تتعلق ب «كيف» مثلما هى تتعلق ب«ماذا». لكن هناك استثناءات للقاعدة. فخلال الأسبوع الماضى، أظهر الرئيس جبنا بدا كما لو كان متعمدا بهدف إثبات أن المحافظين الجدد على حق. فقد أعلن البيت الأبيض تخفيف العقوبات المفروضة على كوبا، فى الوقت الذى يحل راؤول كاسترو محل أخيه فيديل، كحاكم البلاد المستبد. ولكن بدلا من القطيعة الصارمة مع سياسة الحصار التى تم انتهاكها منذ زمن طويل، يسير السيد أوباما ببطء فى الاتجاه الصحيح. ومن الآن فصاعدا، لن يخضع الكوبيون الأمريكيون للقيود على السفر للجزيرة، وإرسال فوائض دولارية إلى الأقارب. وسوف يكون مسموحا للشركات الأمريكية بالتعاون مع كوبا فى بناء شبكات الاتصالات. لكن ترسانة القيود على التجارة والاستثمار والسفر، التى شُيدت منذ نحو نصف قرن، عقب أزمتى خليج الخنازير والصواريخ الكوبية، ما زالت على حالها. ومن الواضح أن حظر السفر سوف يظل مطبقا على أولئك الذين لا يزعمون أن لهم أصولا كوبية، وهو ما يقسّم الأمريكيين إلى طبقتين على أساس من الانتماء العرقى. ويمكن للأمريكيين من غير الأصول الكوبية أن يسافروا إلى بيونج يانج أو طهران إذا ما أرادوا ذلك دون أن يتعرضوا إلى عقوبات. كما أنهم يستطيعون الحجز فى فندق هانوى هيلتون، أو قضاء الإجازة فى سوريا أو بورما. غير أن القيام برحلة قصيرة بقارب إلى هافانا قد يعرضهم للمحاكمة. وبالطبع توجد ثغرات. فوفقا لخبرتى، يستطيع أى شخص فى واشنطن معرفة كيف يمكنه الحصول على سيجار كوبى. واستطاعت جماعات الضغط من المزارعين الحصول على استثناءات بشأن تصدير بعض الحاصلات الزراعية إلى كوبا. ولكن بالمعنى الرمزى والفعلى، مازال الحصار قائما. نحن نعلم أن السيد أوباما يمكنه أن يكون جريئا. فقد أعاد صنع السياسة الأمريكية تجاه إيران والعراق وروسيا وسوريا وأفغانستان، ودول أخرى كثيرة. كما أنه يخطط لهدم معسكر الاعتقال فى جوانتانامو، الذى أوقعته المصادفة التاريخية داخل أرض كوبية كانت الولاياتالمتحدة قد استأجرتها لفترة طويلة من هافانا. غير أنه فيما يتعلق بالعلاقة مع نظام كاسترو، فقد انضم السيد أوباما إلى القائمة الطويلة من الرؤساء الأمريكيين الذين وقعوا أسرى الإهانة التى تعرضت لها الولاياتالمتحدة فى بداية الستينيات. ويعرف الكثيرون أن فريق أوباما يرغب فى استدعاء المقارنات بينه وبين جون كنيدى. غير أن التعلق بسيادة جون كنيدى تجاه كوبا هو بالتأكيد خطوة أبعد من اللازم. وخارج الولاياتالمتحدة، أثار هذا النهج خليطا من الالتباس والإحباط بين حلفاء الولاياتالمتحدة، وأحدث ضيقا وغضبا فى نصف الكرة الغربى. وبالنسبة للكثيرين، يعبر هذا النهج عن عهد ما قبل انهيار الشيوعية السوفيتية، عندما شعرت الولاياتالمتحدة، عبر تحديث مبدأ مونرو، بأن بإمكانها تحديد كيفية حكم المناطق الأخرى فى الأمريكتين. ولا يعنى طرح مثل هذه الأفكار بأى حال السعى إلى تقديم يد العون إلى نمط الشيوعية الوراثية فى كوبا؛ ذلك أنه لا يوجد شىء بطولى أو رومانسى فى نظام يقوم بإفقار شعبه، بينما يحرمه من الحريات الإنسانية الأساسية. ومن ثم تقول منظمة هيومان رايتس ووتش عن الأخوين كاسترو إنهما يقفان على رأس «آلة قمعية شديدة النفوذ»، تقوم بإنكار الحقوق الإنسانية والسياسة كما تقرها القوانين. وقد يرى اليساريون الأوروبيون فيديل كاسترو باعتباره بطل الستينيات المحبوب، لكن السجناء السياسيين الرازحين فى سجون كوبا سيعترضون على ذلك. والمسألة لا تتعلق بمعارضة واشنطن للقمع، ولكن بكيفية ذلك. ويقال إن الحصار هو إجراء من بقايا الحرب الباردة. لكنه يتناقض مع المنطق الذى جرى على أساسه خوض هذه الحرب وكسبها. ولم تنهر الشيوعية فى الدول المحيطة بالاتحاد السوفيتى بفعل محاصرة الغرب لها وعزلها، ولكن لأن مواطنيها استطاعوا أن يروا البديل فى النموذج المغاير لها. وإذا ما عدنا للوراء، لم يحظر رونالد ريجان السفر إلى وارسو أو براج أو برلينالشرقية. وعلى المنوال نفسه، حتى لو كان الحصار قد ساهم فى تدهور الأوضاع الاقتصادية فى كوبا، إلا أنه قد عزز من قوة الدعم السياسى الذى يحظى به الأخوان كاسترو ونظامهما. فمادامت الولاياتالمتحدة مستمرة فى مساعيها لتغيير النظام فى كوبا، ستظل المعاداة للأمريكيين سلاحا فى أيدى النظام. ويتناقض الاستمرار فى الحصار ضد كوبا مع النهج الذى يتبعه أوباما ضد طهران، التى تعد خطرا أكثر أهمية على الولاياتالمتحدة والأمن العالمى. ومن خلال سياستها للتقارب مع إيران، ترغب الولاياتالمتحدة بشكل ضمنى وقريبا بشكل صريح فى تغيير النهج لا النظام الإيرانى. ويتمتع السيد أوباما بما يكفى من الذكاء لفهم هذه التناقضات، وهو ما يجعلنا نخلص إلى أنه أيضا يخشى ضياع أصوات الكوبيين الأمريكيين فى فلوريدا. لكن هل يمكن أن نصدق أن رئيسا قرر بحسم تغيير مكانة الولاياتالمتحدة فى العالم يمكن أن يصبح أسيرا لأصوات ناخبى فلوريدا؟ وكى يُظهر أوباما جديته فى شأن كوبا عليه أن يقول: لم يعد جون كنيدى معنا الآن، ولم يعد الاتحاد السوفيتى موجودا، وإن أفضل طريقة لتحقيق الحرية فى كوبا (وغيرها) هى ضرب المثل على ذلك. ويبدو أنه يكفى جدا أن تستمر سياسة فاشلة لنصف قرن. Philip Stephens The Financial Times Limited 2009