يعتبر البعض أن السماح للبنوك المحلية، بتمويل جزء أو كل من مشروعات الشركات الأجنبية فى مصر، من الأسباب التى تغرى بجذب هذه الاستثمارات، لكن هل هذا هو الاستثمار الذى تحتاجه الدولة؟ فى بداية تنفيذ برنامج الخصخصة، فى مطلع التسعينيات من القرن الماضى، لجأ كثير من المشترين لشركات الدولة سواء من المحليين أو الأجانب إلى الاقتراض من البنوك العامة التى لم يكن يوجد غيرها آنذاك لتمويل استحواذهم على هذه الأصول، وهو ما كان يعنى وفقا لكثير من المحللين أن الخصخصة لم تساهم فى دخول أموال جديدة إلى السوق المحلية، بل على العكس، قامت بوضع هذه الشركات وأرباحها فى جيوب القطاع الخاص المصرى والأجنبى دون دفع قرش واحد من أموالهم الخاصة. وظل الوضع على هذا النهج منذ أن بدأ برنامج الخصخصة فى عام 1991، حتى انتبه البنك المركزى المصرى بعد مرور أكثر من 10 سنوات، وتدخل ليحظر تمويل صفقات الخصخصة من البنوك، مدفوعا بتحذيرات كثير من الخبراء بأن الاقتصاد الوطنى لن يستفيد شيئا من هذه الصفقات التجارية، وأنه من المهم أكثر أن تأتى الاستثمارات من الخارج لتعمل فى مصر. وكانت قيمة حصيلة الخصخصة بلغت نحو 15 مليار جنيه حتى منتصف عام 2003، نتيجة بيع 193 شركة، ووصلت إلى 50 مليار جنيه حتى منتصف 2008، وفقا لتصريحات سابقة لوزير الاستثمار. لكن هذا القرار لم يكن نهاية المطاف. فقد استمرت البنوك المحلية على هذا النهج، بمنح الأجانب قروضا حتى فى برنامج الخصخصة، «ويبدو أن البنك المركزى ألغى قرار الحظر»، كما قال أحمد قورة، الخبير المصرفى، والرئيس السابق لمجلس إدارة البنك الوطنى المصرى. وقد دفع ذلك البعض إلى توجيه انتقادات لهذا التوجه تحت ادعاء أن الأجنبى القادم ليستثمر فى مصر يجب أن يجلب معه الأموال التى تبنى مشروعات، وتزيد من فرص العمل المتاحة. ولا توجد إحصاءات صادرة عن أى جهة تبين حجم إقراض البنوك الوطنية للشركات الأجنبية التى تستثمر فى مصر، لكن قدرها قورة بأنها لن تتجاوز نسبة 10% من إجمالى حجم القروض، «أنها نسبة بسيطة لكنها مؤثرة» تبعا لقورة. «ولا تتعامل البنوك المصرية بمكيالين مع الشركات الوطنية والأجنبية فى جانب الائتمان، فهى تمنح الجميع التمويل اللازم طالما كان المشروع مستوفيا للشروط. وفى الوقت نفسه، تقصر بعض البنوك الأجنبية فى مصر قروضها على الشركات الأجنبية»، على حد تعبيره. ورغم أن معظم خبراء المصارف لا يجدون سببا قد يمنع بنكا مصريا من منح قرض لشركة أجنبية تستثمر فى مصر، ما دامت ستقدم كل ما يلزم من الضمانات، ودراسات الجدوى الجيدة للمشروع، إلا أن بعضهم يعترض على النظر لهذه القروض بشكل مجرد من أى عوامل أخرى، «فالنظرة يجب أن تكون شاملة وتأخذ فى الاعتبار العوامل الاقتصادية والسياسية، والأمنية» حسب قورة. وفسر وجهة نظره قائلا: إن الشركة التى ستحصل على قرض ستستفيد منه، وتحقق أرباحا ثم ستقوم بتحويلها إلى الخارج، وقد تنهى المشروع بعد عدة سنوات، بعد بيع الأصول، مما يعنى أن الأموال خرجت من مصر ولم تستقر فيها، كما أن عددا من العمال فقدت وظائفهم. واقترح قورة وضع نظام صارم لهذا النوع من القروض «حتى تحقق مصر أكبر استفادة ممكنة من الاستثمارات الأجنبية»، كأن يشترط فى العقد تحويل نسبة من الأرباح، ولتكن 10% سنويا ولمدة محددة لمشروعات جديدة فى الداخل، أو يشترط زيادة رأس مال المشروع فى وقت لاحق وعمل توسعات تستوعب عمالة جديدة وتضيف للدخل القومى، وأشار إلى أن بعض عمليات الخصخصة شملت مثل هذه الشروط لكنها لم تنفذ، مثل صفقة بيع بنك الإسكندرية، حيث كان من المقرر زيادة رأس المال فى وقت لاحق لكنها لم تتم. ويرى رشدى صالح مسئول المراجعة الداخلية والالتزام فى المصرف العربى الدولى، أن تمويل البنوك المحلية لشركات أجنبية يساهم فى زيادة جذب الاستثمارات الأجنبية الوافدة إلى مصر، لكن مخاطرها قد ترتفع عن مخاطر تمويل مشروع محلى، لذلك يجب أن تتحوط البنوك بكل الوسائل الممكنة. وإن كان لا يوجد تقدير محدد لحجم هذه القروض، إلا أن إقبال البنوك على تمويل المشروعات الكبيرة فى مصر يبدو واضحا، وقال صالح إن البنوك عادة ما تساهم فى تمويل مشروعات تنفذها شركات عالمية وتتسم بضخامتها، مثل المشاركة فى إقامة محطة للطاقة فى سيدى كرير عبر تسهيلات ائتمانية لشركة إنترجن الأمريكية المنفذة، ونفس الوضع تكرر مع شركة بكتل للطاقة، «أى أنها غالبا ما تكون مشروعات بنية تحتية» تبعا لصالح. ومؤخرا منح البنك الأهلى المصرى شركة «سينو ثروة»، الصينية المتخصصة فى مجال توفير الحفارات التى تستخدمها شركات البترول سواء فى الحقول البرية أو البحرية 58 مليون دولار، وهو يعادل 327 مليون جنيه، وقال مصدر الخبر المصرفى ل«الشروق»: إن تمويل قطاع البترول، خاصة الكيماويات والغاز، من الأنشطة التى تجد ترحيبا من قبل إدارة الائتمان فى البنوك المصرية وكذلك الأجنبية. وربما فى أوقات الانتعاش لا تلفت قضية منح الشركات الأجنبية قروضا انتباه أحد، لكن فى الأزمات مثل التى يعيشها العالم ومن بينها مصر حاليا تثور هذه القضية عملا بمبدأ «أن جحا أولى بلحم ثوره»، خاصة أن كل الأنظار تتجه نحو البنوك كمصدر رئيسى ويكاد يكون وحيد لتعويض تراجع الاستثمارات الأجنبية، وتقديم التسهيلات التى تعمل على حفز الاقتصاد، وقال صالح: إن مشروعات كثيرة فى مصر تعانى وبدأ بعضها يتوقف عن العمل خاصة فى المدن الجديدة بسبب عجز التمويل، وكلما صغر حجم المشروع كلما كانت معاناته أكبر. ويرى صالح أن نظرة البنك فى الأوقات العادية وغير العادية لا تختلف بالنسبة للمشروع الأجنبى أو المحلى عند تقييمه من ناحية الحجم، «فالمشروعات الكبيرة طوال الوقت هى الحصان الرابح فى الحصول على تمويل سهل من البنوك» حسب قوله. وقال محمد شهبو نائب رئيس بنك التنمية الصناعية، إنه لا توجد مشكلات فى منح الشركات الأجنبية قروضا، ما دامت مستوفية للشروط وتتمتع بسمعة جيدة عالميا، «وقد أصبح من السهل الاستعلام عن تاريخ الشركة الائتمانى حتى ولو كانت خارج مصر»، مشيرا إلى أن البنك عندما يتأكد من جدارة العميل الائتمانية، سيمنحه القرض سواء بالعملة المحلية الذى قد يطلبه لتسيير أعمالة داخل البلاد أو بالدولار لاستيراد أجهزة ومعدات. وأضاف شهبو أن الحالة الوحيدة التى يمكن أن ترفض البنوك فيها منح قروض بالدولار للأجانب، هى عند وجود عجز فى كمياته فى السوق المحلية كما كان يحدث قبل عدة سنوات، «لكن الآن وضع سوق الصرف مستقر والدولار متوفر» حسب تعبيره. وكانت سوق الصرف واجهت مشكلة عجز الدولار، نتيجة لتراجع الاستثمارات الأجنبية، والصادرات على خلفية الأزمة العالمية، وهو ما دفع البنك المركزى إلى ضخ كميات من الدولار فى السوق لدعم العرض منه. وأدى تراجع كل من الاستثمارات المباشرة، والصادرات إلى خفض الحكومة لتوقعات النمو عدة مرات منذ الربع الأخير من العام الماضى ل2009، إلى أن وصلت إلى 4.1%، وكان نمو هذه الاستثمارات على مدى السنوات الثلاث السابقة بصورة طردية، ووصولها إلى 13.2 مليار دولار فى العام المالى 2007-2008 مقابل 11.3 مليار دولار فى العام الأسبق، وفقا لما أعلنه البنك المركزى، يعتبر سببا رئيسيا لتحقيق معدلات نمو اقتصادى تجاوزت 7% طوال هذه السنوات.