مع مطلع القرن العشرين كانت سلطات الاحتلال البريطانى قد سيطرت على مقدرات الأمور فى مصر، وتحكمت فى كل شىء، ومن بينها التعليم، من خلال دوجلاس دنلوب مستشار نظارة المعارف والرجل الأول فيها وعمدت إلى رسم سياسة التعليم، بحيث جعلت الهدف الوحيد منه هو الحصول على الوظيفة الحكومية، وذلك بجعل المدارس «محض معامل لتخريج موظفين الحكومة»، وهذا ما جعل الكثير يكتفى بالشهادة الابتدائية، أو الثانوية للحصول على إحدى وظائف الحكومة. ولم تكن المدارس الثانوية فى أوائل القرن العشرين إلا أداة من أدوات الحكم البريطانى، غايتها تخريج طبقة من الأفندية ليشغلوا الوظائف الصغرى فى دواوين الحكومة، وليعملوا فى طاعة واستسلام تحت إشراف البريطانيين الذين يشغلون المناصب العليا. كما كان معظم خريجى المدارس العليا عدا الحقوق يسعون إلى الالتحاق بالوظائف الحكومية بدلا من الاشتغال بتخصصاتهم المهنية، وربما كان ذلك بسبب نمو الجهاز الحكومى فى بدايات القرن العشرين، بالإضافة إلى عدم وجود قطاعات اقتصادية أخرى تستوعب هؤلاء الخريجين المصريين. ولم يكن المصريون يُقبلون على العمل الحر لأنهم لم يألفوه، كما أنه لم يكن يتصف بالضمان مثل العمل الحكومى، فالمهنيون كالأطباء والمهندسين ورجال القانون، وغيرهم كانوا يفضلون العمل الحكومى على العمل الحر، كذلك لم يألف المصريون العمل بالتجارة، والبعض كان يعتبرها من الأعمال غير المأمونة، بدليل أن الأعيان المصريين كانوا يستثمرون أموالهم فى شراء الأراضى وليس فى التجارة رغم حيازتهم لرءوس الأموال اللازمة للأعمال التجارية. هذا الإقبال والتهافت على العمل الحكومى والوظيفة، سبب تكدسا فى مصالح ودواوين الحكومة المختلفة، وشيئا فشيئا بدأت هذه المصالح وتلك الدواوين تكتفى بمن فيها من الموظفين، حتى أصبحوا عبئا عليها، وهو ما جعلها تتوقف عن تعيين موظفين جدد، بل تستغنى عن عدد منهم منذ العقد الأول من القرن العشرين بدعوى إلغاء الوظيفة وهو ما كان سببا مباشرا فى ظهور ثم ارتفاع نسبة البطالة بين المتعلمين. وقد بلغ عدد موظفى الحكومة فى عام 1911 (14.596)، بينما كان هناك الكثير من المتعلمين خريجى المدارس الحديثة لم يعملوا (بالميرى) بسبب أن الإدارات الحكومية لم تعد تستوعب كل خريجى المدارس، وأيضا بسبب التوسع فى التعليم الأهلى، وهؤلاء قد عمل بعضهم فى المهن الحرة، وتعرض البعض الآخر للبطالة. ومع قيام الحرب العالمية الأولى، بدأت الحكومة تتخلص من عدد كبير من موظفيها، تخلصا من عبء رواتبهم، ومستحقاتهم المالية الأخرى خاصة بعد الارتباك المالى والاقتصادى الذى عم مصر كلها. فأثناء الحرب نظرا لتوقف مشروعات الرى والصرف فصلت الحكومة 500 موظف من وزارة الأشغال. وارتفعت أصوات المفصولين، وكثرت الشكوى، ورفعت الالتماسات إلى الديوان السلطانى من حملة الشهادات يطالبون فيها بإلحاقهم بالوظائف بعد أن امتلأت جدران المصالح بالإعلانات عن عدم وجود وظائف خالية. وقد تقدم الكثيرون من الذين تم رفتهم بسبب ظروف الحرب، أو بسبب إلغاء الوظيفة بشكاوى والتماسات يطلبون فيها العودة إلى وظائفهم، ويوضحون الضرر الذى لحق بهم وبأسرهم وأطفالهم بسبب الخروج من الخدمة، وما تعرضوا له من جوع وانقطاع عن المدارس وتوقف عن التعليم.. إلخ، لذلك فقد التمسوا وتوسلوا إعادتهم إلى وظائفهم أو إلحاقهم بأخرى. وعلى الرغم من ذلك فقد قررت الحكومة تكوين لجنة مهمتها مراجعة كشوف الوزارات المختلفة لفصل الموظفين الزائدين عن حاجة العمل وترتب على ذلك أن أصبح الموظفون فى حالة ذعر خوفا من أن يفقدوا وظائفهم. هذا فى الوقت الذى اضطرت فيه الحكومة المصرية لاستحداث بعض الوظائف الجديدة فى مصالحها المختلفة لاستيعاب 130 شابا بريطانيا أرسلتهم الحكومة البريطانية للتوظف فى مصر، وهو ما تسبب فى خروج عدد كبير من الموظفين المصريين فالتجئوا للمحاكم، طالبين العدل والإنصاف، وهكذا كانت ظروف الحرب العالمية الأولى سببا مباشرا فى الاستغناء عن عدد كبير من موظفى الحكومة المصرية، وهو ما أسهم فى ارتفاع نسبة البطالة فى مصر بشكل كبير. ويبدو أن هذه المشكلة لم تنته بانتهاء الحرب، بل اشتدت بعد الحرب وهو ما دفع الحكومة فى عام 1935 إلى أن توجه نداءها للبنوك والشركات تطالبهم بالمشاركة فى حل أزمة البطالة واستخدام الأفندية المصريين بدلا من الأجانب. كذلك وجهت الحكومة نداء إلى أصحاب الدوائر الزراعية الكبيرة لمراعاة خريجى المدارس الزراعية والبيطرية المتعطلين والاستفادة منهم فى العمل. وقد اضطر كثير من الشباب المتعلم من حملة المؤهلات الدراسية المتوسطة والجامعية بسبب البطالة وضيق فرص العمل إلى قبول الأعمال الصغيرة التى لا تتفق مع مؤهلاتهم، وأيضا قبول العمل بالأجر اليومى. ولقد أدى وجود هذه الأزمة مع رخاء الرأسمالية وانتعاشها المتزايد إلى شعور الشباب المتعلم بمدى الظلم الاجتماعى الواقع على المجتمع. ويبدو أن اشتداد أزمة البطالة هو ما دفع فريق من الشباب إلى أن يشق طريق العمل بالجهد الذاتى، فكون هذا الفريق فى نوفمبر 1936 (الجمعية الأهلية للباحثين عن العمل) وهى جمعية شعارها (نريد أن نعمل)، وكانت تتلخص أهدافها التى بلغت 12 هدفا فى إيجاد فرص عمل للشباب بإقامة منشآت إنتاجية يشغل أعضاؤها وظائفها.. إلخ. وأعلنت الجمعية أنها تعمل على إبعاد الشباب عن الاشتغال بالشئون السياسية والحيلولة بين الباحثين عن العمل وبين اشتغالهم بالأعمال غير المشروعة وقد استطاعت الجمعية تأسيس مصنع للبلاط وجريدة. وأما عن عدد المتعطلين فى مصر فى 1937 فقد كان طبقا للإحصاء الرسمى لذات السنة كالتالى: من الذكور (1.908.221)، من الإناث (6.590.295)، بمجموع (8.498.516). كما كان عدد من يعملون أعمالا غير منتجة (1.327.203) من الجنسين. ومعنى ذلك أنه إذا كان سكان مصر فى ذلك الوقت 16 مليونا، فإن منهم 10 ملايين كانوا يعيشون عالة على الباقين، دون أن يكون لهم مورد رزق. أما عن المتعطلين من حملة المؤهلات العليا (عام1937): فتشير الإحصاءات إلى وجود 7.500 عاطل من حاملى البكالوريا، و3.500 عاطل من خريجى الجامعة المصرية والمدارس العليا. وفى 1942 ذكر وزير الشئون الاجتماعية أن العدد الإجمالى للمتعطلين منهم كان 10.000 عاطل.. مع الأخذ فى الاعتبار أن قلة عدد المتعطلين من حملة المؤهلات العليا بسبب زيادة عدد الموظفين منهم، أيضا بسبب قلة عدد المتخرجين فى الجامعة والمدارس العليا، بالمقارنة بعدد المتخرجين فى المدارس الابتدائية والثانوية والمتوسطة. وقد تفشت البطالة عام 1946، عندما تم الاستغناء عن 32.2 ألف عامل، بالإضافة إلى عدد كبير من موظفى الحكومة المصرية، وبذلك صارت البطالة من أخطر المشكلات التى واجهت مصر بعد الحرب خاصة بين سكان المدن، إذ بلغت البطالة معدلات هائلة بين خريجى معاهد التعليم العالى، وكذلك بين جماعة البكالوريا . ووقفت وزارة الشئون الاجتماعية، ومكتب العمل عاجزين تماما عن اتخاذ أى إجراء إزاء هذه المشكلة الخطيرة، ولم تكن لدى الحكومة المصرية أى خطط لمكافحة البطالة المتفشية والمتزايدة. وجدير بالذكر أنه كانت هناك أعداد هائلة من المتعطلين، من خريجى الجامعات المصرية خلال الفترة (1946 1952)، بلغت 13774، من جملة متخرجين قدرها 17686، أى بنسبة (77.88%).. هكذا كانت البطالة فى مصر تسير من سيئ إلى أسوأ. فعدد المتعطلين، والنسبة المئوية لهم كانت تزداد بل وتتضاعف، من فترة لأخرى. وإذا كانت المشكلة قد اشتدت أثناء الحربين العالميتين، فإنها قد تفاقمت بشدة بعد انتهائهما.