بينما كان ونستون تشرشل يقف وسط ركام أوروبا التى دمرتها الحرب العالمية الثانية أخلاقيّا وسياسيا وماديا، قال محمسا فى عام 1946: «لو كانت أوروبا موحدة فى يوم من الأيام.. لما كان هناك حد للسعادة، وللرفاهية والمجد الذى كان سيتمتع به أهلها البالغ عددهم 400 مليون نسمة». واليوم العكس هو الذى يمثل تهديدا: إذا مزقت الأزمة الاقتصادية أوروبا فلن يكون هناك حدود لتعاسة ساستها وأهلها البالغ عددهم 500 مليون نسمة وفقرهم وعارهم. منذ عشرين عاما انهار سور برلين على نحو غير متوقع، وأعقبه انهيار الاتحاد السوفيتى ونظام الحرب الباردة ثنائى الأقطاب. واليوم نجد أن النموذج الرأسمالى فكرة كون السوق الحرة هى الحل الذى احتُفى به باستمرار مهدد بالانهيار وجر الاتحاد الأوروبى معه إلى نفس المصير. فأين نجد التمرد الأوروبى العاطفى الخاص بشخص مثل تشرشل اليوم، ذلك الصوت الحالم الذى يعيد إلى الأوروبيين فكرة أن الإقليمية القومية المنتشرة فى الأزمة العالمية لا تضر فقط المعجزة الأوروبية أى تحول الأعداء إلى جيران بل تدمر نفسها أيضا؟ ولا يريد أحد ذلك بالطبع. غير أن أحدا لم يكن يريد اشتراكية الدولة للأغنياء والليبرالية الجديدة للفقراء التى ظهرت لدينا فجأة. فى الخريف الماضى، انتزعت أزمة البنوك الاتحاد الأوروبى من نرجسيته التى كان غارقا فيها. وقلت لنفسى: يا لها من فرصة! من غير الاتحاد الأوروبى لديه الخبرة الضرورية لاستحضار المصلحة العامة المتعدية للقومية الوطنية؟ وفى ظل النزاع بين الرئيس ساركوزى والمستشارة ميركل ورئيس الوزراء براون قبيل اجتماعات مجموعة العشرين، كان البرنامج الذى اتفق عليه فى القمة معجزة صغيرة. إلا أنه لم يكن كافيا تقريبا، ويجرى تذكر المخاطر على أنها مجرد وضع لورق الحائط للتغطية على الشروخ الأوروبية. وفى الأسبوع الماضى حذر البنك المركزى الأوروبى من أن العلامات الحالية الدالة على «التخندق داخل الحدود القومية» لايزال يحول دون التكامل الأوروبى. وإذا كان الكساد العظيم فى ثلاثينيات القرن العشرين قد علمنا شيئا، فهو أن النكوص إلى الأنشودة الرعوية القومية أمر قاتل لأنه يحيل الكارثة المحتملة إلى واقع أى انهيار الاقتصاد العالمى. تتزايد معدلات البطالة بشكل مطرد فى أنحاء العالم. وتجتاح أوروبا كذلك القلاقل الاجتماعية والحركات المعادية للمهاجرين. والآن يتردد فجأة على جنة رفاهية الاتحاد الأوروبى شبح الدول الفاشلة. فقد فاجأت الأزمة هامش الاتحاد الأوروبى الأعضاء الجديدة من شرق أوروبا. وبعد خيانة النظام الشيوعى، نجد أن المعتدلين فى تلك البلدان الذين أيدوا إصلاحات الاتحاد الأوروبى يشعرون الآن بأن النظام الرأسمالى خانهم وتركهم فى حيرة من أمرهم. ومنذ وقت ليس بعيد كانوا يحثونهم على اتباع «أفضل ممارسة»، التى اتضح الآن أنها الأسوأ. لو لم يوجد الاتحاد الأوروبى لتوجب علينا اختراعه الآن. وبغض النظر عن كون الاتحاد تهديدا للسيادة القومية فى بداية القرن الحادى والعشرين، فهو أولا وقبل كل شىء يجعل هذه السيادة القومية ممكنة. ففى مجتمع المخاطر العالمية، عندما تواجَه الدول القومية التى يسمح لها بعمل ما يحلو لها بتجمع المشكلات العالمية الخطيرة التى تقاوم الحلول القومية، تصبح لا حول لها ولا قوة وعاجزة عن ممارسة سيادتها. وتوفر سيادة الاتحاد الأوروبى المجمعة الأمل فحسب لكل دولة ولكل مواطن كى يعيش بحرية وفى سلام. وهؤلاء الذين يضرون الاتحاد يضرون أنفسهم. وإذا استنكر الأعضاء مسئوليتهم وتضامنهم فى إطار جنون الأفعال اللاإرادية القومية، فسوف يخسر الجميع. إذ سيكون محكوما على كل دولة بمفردها ألا تكون لها أهمية عالمية. وتلك التى ترغب فى استعادة سيادتها فى هذا الركن الخاص بنا من مجتمع المخاطر العالمى يجب أن تكون إرادتها أوروبية، وتفكيرها أوروبيا، وأن تعمل فى اتجاه تحقيق أوروبا. فوحدة العمل السياسى فى العصر الكوزموبوليتانى لم تعد الدولة، بل الإقليم. هل شكل القومية التبادلية هو الحل، كما يرى الأوروبيين البرجماتيين؟ ومن هذه الناحية، تتمتع كل دولة بالاستقلال ويكون عليها واجب تنظيم مشكلاتها المالية. وفى الوقت نفسه يجب على كل دولة الاعتراف بسيادة الدول الأوروبية الأخرى، كى تضمن كل منها أنها تتحاشى السياسات الاقتصادية التى لها آثار سلبية على الدول الأخرى. ويقوم هذا الرأى على ثلاثة مبادئ: الحقوق المتساوية، وحزم الإجراءات المنسقة، والمسئولية المتبادلة. ويضاف إلى تلك المبادئ مبدأ رابع هو الرفض القاطع لتوسيع قدرة الاتحاد الأوروبى فى وضع السياسة الاقتصادية. قد يعمل هذا النموذج من القومية التبادلية بشكل جيد فى ظروف الطقس المعتدل، إلا أنه محكوم عليه بالفشل فى أوقات الأزمة. فليس هناك بلد من القوة بما يكفى لسحب البلدان الأخرى إلى خارج المستنقع. وفى الوقت نفسه يتضح مدى ترابطها جميعا: فعندما «يفلس» بلد ما فإنه يسحب البلدان الأخرى معه إلى أسفل. ليست أوروبا بحاجة إلى قدر أقل من الشخصية الأوروبية بل إنها بحاجة إلى مزيد منها. وتبين الأزمة العالمية أنه لا يمكن تحقيق الاتحاد النقدى بدون الاتحاد السياسى. ومع ذلك فإنه حتى الآن ليست هناك سياسة مالية مشتركة، أو سياسة صناعية مشتركة، أو حتى سياسة اجتماعية مشتركة وهى التى يمكن تجميعها من خلال سيادة الاتحاد الأوروبى لتصبح حلا فعالا للأزمة. والشخص الذى يرفض هذه القطعة الضرورية تاريخيّا الخاصة بمزيد من أوروبا، ويجعل كل شخص وكل شىء فى خطر، هو المستشارة الألمانية ميركل. ذلك أن النموذجين اللذين تقتدى بهما، وهما المستشاران السابقان والمؤيدان الألمانيان لأوروبا أديناور وكول، كانا سيحولان الأزمة إلى أجمل أوقات أوروبا. وكانا سيفوزان فى الانتخابات بذلك لأن الاستثمار فى مستقبل أوروبا اليوم، فى ظل الثمن الذى لا يمكن تخيله لتفككها، يعِد بعائدات غير معقولة ويعنى الأمل فى الأوقات المظلمة. إلا أن ما يشل حركة أوروبا فى الوقت الراهن هو خداع النفس القومى الخاص بنخبها الفكرية. فهى تتأسى على البيروقراطية الأوروبية الغافلة، بينما تعتمد ضمنا على الافتراض غير الواقعى بالمرة القائل بأنه يمكن أن تكون هناك عودة إلى الأنشودة الرعوية القومية. والإيمان بالدولة القومية أعمى فيما يتعلق بتاريخيتها؛ فهو يقع فريسة للسذاجة العنيدة والمشتِّتة التى تنظر إلى الأشياء التى كانوا يرونها قبل ثلاثة عقود على أنها غير طبيعية وعبثية على أنها خالدة وطبيعية. وهذه الحمائية الفكرية، وخداع النفس القائم على الحنين إلى الماضى هذا، ليس مقصورا على الجيوب اليمينية الرديئة فى أوروبا. إنه يسود حتى فى أكثر الدوائر تعلما وثقافة على امتداد الطيف السياسى. تطالب الأزمة بتحويلها إلى تأسيس جديد تأخر عن موعده كثيرا للاتحاد الأوروبى. وحينئذ سوف تمثل أوروبا سياسة واقعية جديدة للعمل السياسى فى عالم معرض للخطر. وفى عالم اليوم المتشابك، يجب أن يُستعاض عن المبدأ الدائرى الخاص بالسياسة الواقعية القومية وهو أنه لابد من السعى لتحقيق المصالح القومية على المستوى القومى بمبدأ السياسة الواقعية الكوزموبوليتانية: كلما كنا أوروبيين أكثر تصبح سياستنا كوزموبوليتانية أكثر، ونكون أكثر نجاحا على المستوى القومى. إن الخيار الآن بين مزيد من أوروبا أو لا أوروبا على الإطلاق. ويبرر هذا الملمح الأساسى الخاص بالفشل المحتمل الأمل فى سوق هابطة: فالاتحاد الأوروبى الذى تجدد الأزمة شبابه يدا بيد مع الانفتاح الأمريكى نحو العالم فى عهد أوباما يمكن أن يعتمد على بذور الحل العالمى المتحد التى تم بذرها فى بداية هذا الشهر. أستاذ علم الاجتماع بجامعة لودفيج ماكسميليانز بميونخ ومدرسة الاقتصاد بلندن وهو مؤلف كتاب World Risk Society. Copyright: Guardian News & Media 2009