إن تزامن ذكرى 11 سبتمبر مع عيد الفطر فى الولاياتالمتحدة أثار نقاشا أنتج فرزا بين دائرة الوجدان هنا، وبين الذين يتربصون لأى تنوع عرقى أو دينى فى الكيان الأمريكى. وحيث إن هذا الفرز لخص معناه نوا فيرفيربيلت مدير اللجنة الموكول إليها الترخيص لمبنى قرطبة الذى يدعو إليه الإمام عبدالرءوف حيث وافقت اللجنة بأكثرية متميزة على السماح بإنشائه، والذى يشمل مسجدا فى إطاره، لخص النقاش بأن «أكثر الحلول التى تمت الموافقة عليها كانت مثارا للجدل، ثم أضاف إن أعضاء اللجنة لم يكونوا مرتاحين لتأييد القرارات كما لم يكونوا مرتاحين لعدم إقرار مكان للعبادة». أعتقد أن هذا الرأى يعبر عن مخاض فكرى وسياسى فى المجتمع الأمريكى عامة بحيث تصطدم الغرائز البدائية التى تكاثرت نتيجة انتشار ما يسمى ب«حزب الشاى» الذى يحاول التستر على النزعات العنصرية الكامنة التى تريد وتعمل على الانتقام من كل مشروع سياسى اقتصادى اجتماعى صحى يقوم به الرئيس أوباما. وكأن أى إنجاز لأى مشروع يقوم به الرئيس الأمريكى يجب ألا يتحقق، لأن الأولوية هى ألا يسمح لإدارة أوباما بتحقيق أى إنجاز وبالتالى خلع الشرعية عنه تارة بالادعاء بأنه «مسلم» وتارة من دون الإعلان عن ذلك لأنه أسود. ويحاول اليمين داخل الحزب الجمهورى توظيف هذا التيار فى المرحلة التى تسبق الانتخابات النصفية من أجل الثأر من الرئيس أوباما بهدف توفير أكثرية لحزب الجمهوريين فى مجلسى الشيوخ والنواب فى الكونجرس الأمريكى. جاء مشروع الإمام عبدالرءوف كنقطة استقطاب من شأنها استيلاد نقاش حاد بين المصرّين على حق إنشاء مبنى قرطبة والذين يريدون توظيف الاعتراضات لأهالى ضحايا 11 سبتمبر لإعلان وتكريس التمييز الشرس ضد المسلمين الأمريكيين من جهة، وتشويه صورة الإسلام من جهة أخرى، وكأن الحدث بدوره هو الصفة الغالبة الملازمة للإسلام. من هذا المنظور أفرز هذا التيار اليمينى الشرس الذى أراد أن يوظف عملية 11 سبتمبر لتبرير الفلتان الذى كانت تجلياته دعوة القس الإنجيلى تيرى جونز من منبر كنيسته الصغيرة لحرق نسخ من المصحف الشريف يوم السبت الفائت، وكأن هذه الدعوة غير المسبوقة والاستفزازية ليست فقط ضد المسلمين، بل ضد كل الديانات، هى نتيجة منطقية للخطاب اللامسئول الذى أفرزته التيارات المتربصة بسياسات الرئيس أوباما من إثارة للغرائز التى تهدد العلاقات بين المواطنين الأمريكيين أنفسهم والعلاقات مع الدول الأخرى الإسلامية وغير الإسلامية. إلا أن ما هو مستغرب أنه وسط هذه الأجواء اللاعقلانية التى سادت ما أفرزه تيار «حزب الشاى» من ترسيخ للمواقف اليمينية فى قناعات الكثير من المواطنين هو ما جعل هذا القس المعتوه يستغل الجو بحيث أصبح مثارا للجدل ما استوجب الرد عليه من البيت الأبيض وصولا إلى وزيرة الخارجية إلى الجنرال بترايوس فى أفغانستان الذى اعتبر أن هذا التحريض هو تهديد «لأمن الجنود الأمريكيين فى أفغانستان». ما جعل الوضع السياسى الأمريكى الراهن سريع العطب بحيث كان من المتوقع من الديمقراطية الأمريكية اعتقال جونز فورا لأن ما دعا إليه يمكن اعتباره جريمة تحريض على الكراهية. نشير إلى هذه الظاهرة التى كان يجب أن تعتبر هامشية إلا أنها أصبحت بمثابة قضية مهّد لها بوعى أو بلا وعى الخطاب اللامسئول واللاعقلانى الذى قامت به القوى اليمينية التى تكاثرت والتى تكاد تصبح طاغية على من يمكن تسميتهم المحافظين التقليديين فى الحزب الجمهورى، لذلك يندرج ما يقوم به «حزب الشاى» وأنصاره المتزايدون كعملية إرهاب سياسى فعلى وخطير. والنجاحات التى حققها فى بعض الولايات تمثل دليلا على خطورة التطور ليس على المسلمين فحسب بل على مستقبل الديمقراطية فى الولاياتالمتحدة نفسها إذا لم يردع هذا التمادى بشكل حازم وحاسم. صحيح أن ردة الفعل عند المسلمين الأمريكيين اتسمت بالحكمة والانضباط إلى حد كبير بمشاركتهم فى احترام هيبة 11 سبتمبر ومغزاه بالنسبة للرأى العام الأمريكى إجمالا ما اعتبره معظم المواطنين الأمريكيين بأن المسلمين فى الولاياتالمتحدة هم مثلهم مواطنون فلم ينالوا فقط الاحترام بل تولت الكثير من جمعيات حقوق الإنسان وحتى الكثير من المحافظين التقليديين الحرص على حماية الحقوق المدنية والدستورية لمسلمى الولاياتالمتحدة. يستتبع هذا التشخيص أن أحداث 11 سبتمبر أدت إلى سؤال من قبل الرئيس بوش آنذاك «لماذا يكرهنا العرب والمسلمون»؟ وكان الجواب أن العرب والمسلمين لا يكرهون بل إنهم غاضبون على سياسات التحيز، والغضب هو نقيض الكره؛ فالغضب والتفاوض يعززان النقاش حتى الحاد منه، لأن الغضب يستعمل هذه الوسائل لإزالة أسبابه واستقامة العلاقة وتعزيز الحوار لاكتشاف ما يجمع ويضبط ما يفرق، فى حين أن الكره هو تصميم على إلغاء الحوار، وتدمير إمكانياته وبالتالى عبثية الإرهاب. لذلك عندما حاول بعض العنصريين والمتزمتين إلصاق صورة الإسلام بالعنف والإرهاب فإنهم كانوا بذلك يحكمون على الإسلام ليس حكما خاطئا فحسب، بل ظالما يتعمد تشويه الحقيقة، أى حقيقة الإسلام كثقافة إنارة وليس كحضارة إثارة. لذلك فالغضب ينطوى على شرعية تنطوى على رغبة التصحيح بينما العمليات العبثية تنطوى على رغبة الانتقام العبثى، لذلك كان موقف العرب والمسلمين الأمريكيين دليلا على حكمة شاملة إلى حد كبير، وبالتالى أخرجت ذاتها من مصيدة خانقة أراد اليمين العنصرى فى الولاياتالمتحدة إيقاعهم فيها. جاء عيد الفطر هذا العام ليؤكد أن تمكين وجود الإسلام فى أى مجتمع هو إثراء لحضارة التنوع التى تستحضر احتفالا بما يشارك به الإسلام القيم الروحية والأخلاقية الأصيلة للديانات والحضارات الأخرى. الأهم هو التحدى. نحن ندرك أن هذا الإنجاز الحكيم فى مناسبة عيد الفطر يجب أن يكون نقطة بداية للتصحيح على كل المستويات فى الوطن العربى والعالم الإسلامى، ما يستوجب أن نعامل الناس كما نريدهم أن يتعاملوا معنا، وهذا ينطوى على مجابهة واضحة للتحيز الذى لازم السياسة الأمريكية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية خاصة من خلال تكثيف الحوار وتعزيز خطاب الإقناع والتوجه إلى الضمير العالمى، ولكن كل هذا لن يتحقق إلا إذا وفرت الأمة العربية لنفسها التصاق الحاكمية بنبض الجماهير، ما يوفر للمواطنين الحريات والمساواة من خلال التنمية المستدامة وجعل حقوق الإنسان تنطوى على توفير حاجات الإنسان العربى، وأن نعيد الاستشعار بوحدة المصير وتوفير المرجعية التى توفر لنضالات العرب فى كل أماكن وجودهم البوصلة التى تمهد لمشروع نهضة قومية تلبى مقتضيات الحضارة العربية الإسلامية وتنسجم معها.