يتصور البعض أن الفرعنة مجرد سياسة واعتداد بالنفس واثرة تصيب صاحبها بحب الذات ورغبة التسلط على البلاد والعباد، ويستدلون على هذا التصور بأن الفرعون لا يأمر شعبه بالسجود له، ولم يحل بين الناس وبين معابدهم، ولم يطلب إليهم أن يتركوا ما نزل من السماء ويقرأوا ما يكتبه له السدنة والكهنة... فكل ذلك كما يشهد التاريخ لم يصدر عن فرعون وغاية ما فى الأمر زهو وكبر وتسلط وتمسك بالسلطة لآخر رمق ثم لأبنائه وأحفاده أو أشياعه ومساعديه... ثم يدعى هو وشيعته أن المسألة سياسة لا علاقة لها بالدين. وأظن أن الفرعنة ليست مجرد سياسة استعلاء، ولا أثرة ورغبة فى التسلط فحسب بل هى أبعد مدى من ذلك فهى معاداة لله، وألوهية قد تكون ظاهرة واضحة، وقد ذكر القرآن هاتين الصورتين ليحذر الإنسانية عموما والمسلمين خصوصا أن يركنوا إلى الفرعنة ظاهرة كانت أم مقنعة . فها هو الفرعون يدعى الألوهية واضحة ظاهرة إذ قال: «فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى» (24) النازعات هكذا رأى فرعون نفسه حيث وضع يده على خزائن البلاد ومقدراتها فهو بمجرد الإشارة يمنح من يشاء بالقدر الذى يشاء ويمنع من يشاء من أدنى مستوى للحياة، فيضطر إما للموت ضعفا ومرضا، وإما للنفاق والخضوع ذلة وانكسارا أو يسكت راضيا إذا وجد المواطن سكنا ضيقا وحقيرا بعلمه للخضوع وإذا وجد أكلا فقليلا قليلا، وإذا لبس فلا يجد سترا ولا تكريما، وليرفل الشباب بلا عمل ولا سكن ولا زواج ويكفيه ما يتبقى له من خيرات الناس.. ويصفق الجميع سعداء فرحين أن الفرعون بنى الهرم مقبرة له والمعبد ديوانا للسدنة والسحرة.. وقد دون التاريخ المصرى أكثر من ثلاثين أسرة للفراعنة فترى بعضهم يتواضع فى ألوهيته، فإذا جاهر بها مرات فهو يعود إلى التخفيف من حدتها وبدلا من أن يدعى الألوهية واضحا فهو يتوارى خلف ادعاء الحكمة وتفرده بالخيرية.. . هكذا يأمر فرعون شعبه أن يصدقوه ويكذبوا أعينهم، وأن يستمعوا وينصتوا لرجاله وأعوانه ولا يتفكرون، فهو القادر على تمييز النفع من الضر ثم هو يصف فساده واستبداده بأنه الرشاد، فبماذا يوصف قول موسى وإنجيل عيسى والقرآن الذى أنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) ؟ لا يمكن أن يتلقى الناس رشدهم ورشادهم من سلطة متربعة على كراسى الحكم، فالسلطة لها إدارة الأعمال والمبادرة إلى مساعدة المواطنين فى شئون حياتهم بما ينفع الناس.. أما الرشد والرشاد فذلك شأن مؤسسة الدعوة التى تمثل جزءا فى تشكيل الدولة وتلتزم بالدستور لكنها غير تابعة لأى سلطة، ولا منتفعة من أى سلطة، فلا تدين بطاعة إلا لشرع الله، ولا تلتزم بعقد غير العقد الاجتماعى والسياسى الموقع بين جميع أفراد الأمة قبل أن تنشأ الدولة بمؤسساتها. لا يمكن لإحدى السلطات الثلاث أو لجميعها أن تهيمن على شئون الدعوة الدينية، فالدين شأن إلهى أوحاه الله إلى أنبيائه وأذن لهم بإبلاغه، والنبوة لا يمكن أن تختزل فى فرد يرى ويفكر ويقرر وينفذ... لابد من مؤسسة ذات فئات متعددة إحداها متخصصة فى أصول الفقه والثانية فى الفقه والثالثة فى شئون الواقع المعيش ورابعة للدعوة والبلاغ والنصح والإرشاد، ثم تتولى هذه المؤسسة من داخلها تربية وإعداد وتجنيد المتخصصين.