لا شك أن غياب الرئيسين المصرى والسودانى عن اجتماعات القمة الأفريقية فى كمبالا مؤخرا، يجعل التساؤل الأفريقى شرعيا عن مدى حرص مصر على العمل فى هذه الساحة، ناهيك عن مدى الاستثارة للرئيس الأوغندى المضيف والذى كان مجروحا من العمل الإرهابى فى بلاده قبل أسبوع واحد من استضافته للرؤساء الأفارقة بما جعله يلوح مستاء فى إشارته إلى المصدر «الشرق أوسطى» لهذا الإرهاب. وبين مسئولية المجاملة التى كانت واجبة بحضور الرئيس المصرى للقمة الجامعة، وبين ضرورة الالتقاء برؤساء دول حوض النيل المتوترين أيضا، يستطيع القارئ تصور الدهشة التى تصيبنا من تصريحات رئيس الوزراء د.أحمد نظيف بأن كل شىء على ما يرام، وأنه اتفق مع الرئيس الأوغندى على لقاء رؤساء دول حوض النيل «فى وقت لاحق» لمعالجة جميع الأمور المغلقة. ولا بد أن القارئ قد لاحظ غياب أى جهد أو ملاحظات على بنود القمة الأفريقية الأخرى. وما يثير أكثر فى هذا الصدد هو نتائج اجتماع رئيس الوزراء فى الأسبوع الأخير من يوليو مع المعنيين فى اللجنة العليا لمياه النيل فى مصر وقد بلغ عددهم 12 وزيرا والإعلان عن تقديم عشرات المشروعات والخدمات الاستثمارية، الزراعية والصحية والتعليمية حتى السياحة وزراعة النباتات الطبية فى دول حوض النيل فى أقرب فرصة، وكأن الأموال والدراسات كانت فى انتظار هذه الاجتماعات ولا نعرف سببا لتأخيرها حتى الآن (عددت فى هذا الصدد أكثر من 20 مشروعا) لذلك اتجه التساؤل إلى مدى قبول الطرف الآخر بهذه العروض السخية تعويضا له عن خسائر تكاد مصر تؤكدها بهذه التصريحات. ومع ذلك فإن جميع «التصريحات المقابلة من مسئولين فى دول الحوض فى نفس الفترة تتحدث عن مجرد «النوايا الطيبة» مع إخلاصهم عند التقسيم «للمصالح المشتركة» التى تضمن «حقوق الجميع»! وبدون قلق! ومعنى ذلك أن مشروع الاتفاقية الإطارية ما زال قائما فى تقديرهم ولا يرون فيه «قلقا» لأحد! والحق أن كثيرا منا كتب مبكرا عن افتقاد مبادرة حوض النيل منذ بدايتها 1998 لسقف أو إطار سياسى ينتهى مؤسسيا باجتماعات منتظمة لرؤساء هذه الدول لمعالجة تطور كالذى حدث على أساس توافقى رسمى، وليس انتظارا لاجتماع طارئ يتوقعه نظيف وبدون تاريخ فى كمبالا. وقد لا يستطيع أى من الرؤساء أو عدد منهم حضوره خاصة بعد الغضبة المتوقعة من غيابنا فى كمبالا. ولذا لا يبقى الآن إلا الاقتراح العملى الأقرب إلى المنطق بحده الأدنى وذلك بدفع الفكرة المصرية السودانية عن إقامة «مفوضية» ذات طابع سياسى تدرس مثل هذه المشكلة وتعطى قوة تنفيذية جماعية للمشروعات الممكنة نؤكد الممكنة والمدروسة وليس هذا الفيض من المشروعات التى تبدو والحق جوفاء بسبب انطلاقها العشوائى لأسباب إعلامية وليست ذات لياقة سياسية اقتصادية. وإذا ما تركنا الرؤساء والحكومات وشأنهم فى تضييع فرص اللقاء المسئول حول مصالح بهذه الخطورة، فدعونا نفكر فى طرح أبعد مدى وأعمق تأثيرا فى المستقبل، وهو الانطلاق من «المفوضية» المقترحة إلى أفكار «ثقافية» و«ديمقراطية» للعمل الطويل المدى حول استنفار قوى متنوعة فى المنطقة تشكل أساسا «لهوية حوض النيل» كهوية لتنظيم إقليمى، من نوع هوية مجلس التعاون الخليجى أو التجمعات المغاربية والمشرقية؛ وهى هنا تنطلق من تطوير أفكار سابقة عن «وادى النيل: تكاملا أو توحدا والتى لم تمتد بالبصر إلى بقية شعوب حوض النيل، أو قد تكون تطورت نسبيا فى إطار «رابطة» دول الجوار. الدعوة هنا للمثقفين وعناصر المجتمع المدنى المتوافرة فى مصر والسودان، وفى إثيوبيا وإريتريا، وأوغندا وكينيا وتنزانيا ودول بحيرة فيكتوريا وسط القارة. وهى لا تبدو دعوة مثالية، فهذه المنطقة التى سمينا بعض عناصرها تشهد أغنى حركة تجمع فى القارة دون أن يكون لمعظمها مصدر إطارى «للهوية» لتثبيتها؛ ففضلا عن العلاقات الخاصة بين مصر والسودان، فهناك ما يتوافر أيضا بين شعوب القرن الأفريقى مثلما يتوافر لرابطة دول شرق أفريقيا أو الكوميسا، ثم هناك مؤخرا دول الساحل والصحراء وكلها تتحرك فى إطار اقتصادى دون تعبير ثقافى. ومن المؤسف أيضا أن مصر تكاد لا تكون موجودة بقوة مناسبة أو بحجمها المتوقع فى أى من هذه التجمعات، ليس لأنها فاعلة أكثر على مستوى القارة وقمتها الدورية، ولكن لأنها منكفئة على ذاتها وطبقتها الرأسمالية الرثة فى ركن من القارة، أو محشورة بين مشرق ومغرب! وقد أدهشتنى مؤخرا كتابات عن منطقة حوض النيل أو «الدوائر الثلاث» بسخرية لا تليق إلا بمن يتحدث وكأنه يحصد أكثر من ذلك فى روابط نشطة فى إطار العولمة أو من أفلح أكثر فى الدائرة الأوروبية أو العروبية أو المتوسطية، وذلك لم يحدث، حيث انشغل بعض مفكرى النظام بالكتابة فقط ساخرين من كل جهد سابق دون طرح صيغة نعمل فيها بتؤدة توفر لشعوب هذه المنطقة مستقبلا أفضل. وفى مخزون الذاكرة الوطنية أن أول اتصال نشط لثورة يوليو منذ 1953 كان فى اتجاه هذه المنطقة تحديدا فى مواجهة مع معوقى الاستقلال الوطنى ممثلين من القاعدة الأمريكية بإثيوبيا أو لخنق ثورة الماوماو فى كينيا، حتى الحركات الوطنية فى أوغندا واللومومبيين فى الكونغو....إلخ وحتى أمراء التوتسى المناوئين للبلجيك فى رواندا وبوروندى. كان ذلك أيام فورة الاستقلال وقبل صياغة فلسفة الثورة أو فلسفة الدوائر الثلاث ومشروع الوحدة العربية نفسه. وها نحن الآن فى فورة التنمية المستقلة والبحث عن هويات جديدة لمشروعاتها، وكم تعب بعض الأصدقاء بحثا عن هوية الشرق أوسطية والمتوسطية، أو الانكفاء على الفرعونية والقطرية...إلخ دون أن يلتفت النظر إلى إمكان تطوير علاقات متميزة مع دول وشعوب حوض النيل. ونحن لا نبحث هنا عن مشروعات رومانسية أو وهمية «للوحدة»، ولكن الهويات تتبلور وفق مصالح مؤكدة أو تاريخية يتاح لقوة ذات إمكانيات أن تكون العنصر الفاعل فيها والجامع لها، وهذا ما نتصوره لمصر جادة ومخلصة لذاتها. ومن قبل تحدثنا عن السودان كنواة للتكامل التوحيدى، وتوقفنا، ثم تحدثنا عنه كمعبر أو نموذج للقاء العربى الأفريقى، وفشلنا حتى فى إطار حركة التعاون منذ اجتماع القمة الأفريقية العربية 1977. وقد جعلنى ذلك أعود مؤخرا إلى أفكار كان قد طرحها المثقف والدبلوماسى السودانى الراحل جمال محمد أحمد (19091986) عن «ولايات النيل المتحدة» فى محاصرة له بالإنجليزية 1981 تم نشرها فى الخرطوم 1985 وها هى صحيفة الرأى العام السودانية تعيد نشرها فى يوليو 2010 احتفاء بهذا المفكر اللامع. وهو فى مشروعه ذاك ينطلق من أن منطقة حوض النيل من المناطق الإستراتيجية المهمة فى القارة، وتتواصل شعوبها منذ أجل طويل ويمكن إعادة النظر فى تشكيل عناصرها على أساس من مراعاة «الاجتماعى» و«الاقتصادى» و«السياسى» بل مراعاة المصالح. إذن ثمة إمكانية لحركة ثقافية واعية ومنظمات مجتمع مدنى نشط أن يطرح على نفسه مثل هذا العمل المستقبلى خاصة عند البحث أيضا عن حلول للمسألة السودانية والصومالية. وأعتقد أنه لن يعوق هذا التفكير إلا طبيعة المرجعية فيه، وكيف تكون مرجعيته ديمقراطية بالضرورة بينما تتسم النظم القائمة على طول هذا الخط باستبداد مبرح لا إمكانية فيه بوضعه الراهن لمثل هذا العمل الديمقراطى الثقافى! وإذا كان جمال محمد أحمد قد طرح هذه الفكرة الطموحة أو الحالمة على حد تعبيره والتى ضمنها إعادة توزيع خريطة وشعوب الإقليم كله بما يناسب طبيعة الحلم بإقامة مشروعات بشرية وجغرافية متكاملة، فإننا يجب إلا نيأس من تصورات حالمة أخرى عن إمكانيات لقاء شعوب حوض النيل وليس فقط وادى النيل المهدَّد بانفصال الجنوب السودانى فى وقت قريب. ومن حسن حظى أنى استمعت فى القاهرة مؤخرا، فى لقاء مع «باقان أموم» أمين عام الحركة الشعبية لتحرير السودان ، إلى طرح نفس الفكرة كحل يراه بسيطا للقبول بانفصال الجنوب عن الخرطوم مقابل الاندماج فى خط توحيدى جديد يمتد من الإسكندرية حتى آفاق منطقة البحيرات! إذن فثمة تفاعل للفكرة فى جيل واحد من 1980/2010. وفى إطار مثل هذا التفكير، سيتعرى من يطلقون الكلام والتصريحات على عواهنها لتمضى فى الهواء كالعادة بعد بضعة أشهر، أليسوا هم من تحدثوا عن زراعة مليونى فدان فى أوغندا لنفاجأ بأوغندا مقرا لاتفاقية التقسيم؟ ومع ذلك فثمة من يمكن أن يمضى بجدية فى العمل عبر تيسير لقاء الباحثين والمثقفين وممثلى القوى السياسية والديمقراطية. لقد راعنى فى الفترة الأخيرة تجاهل أى مشروع لدى القوى السياسية المصرية حول التقاء هذا الوطن مع غيره من الدوائر المحيطة به، ومن يريد أن يشاركنى الرعب فليراجع الخطاب السياسى للقوى المتفاعلة الآن فى مصر وكيف يخلو من أى معالجة للقضايا الخارجية ناهيك عن فقر الخطاب الثقافى والفكرى لعشرات الكتاب وفلاسفة العزلة. فيما يتعلق بالعلاقات المصرية، جنوبا أو شمالا. إن الموضوع يظل مطروحا للبحث، ويتوجب عمل الجهد اللازم لمعرفة شعوب المنطقة ومتابعة حركتها وطموحاتها لأن ديمقراطية العلاقات الخارجية لا تقل أهمية عن ديمقراطية الأوضاع الداخلية.