قد لا يعرف الكثير أن السجن ليس فقط مجرد حجز يجلس فيه المسجون منتظرا وقت الإفراج عنه، ولكن الأمر بالداخل أشبه بمدينة تدار بالأوامر، ويتحول المتهم إلى نزيل، والفرق بينه وبين نزيل الفنادق أنه لا يحصل على الخدمة بل يقدم هو الخدمة لكل من بداخل السجن بدءا من المأمور وحتى المخبر الصغير وكذلك لزوار السجن، كما أن عقوبة المسجون التى يقضيها داخل السجن لا تعفيه من إمكانية تعرضه لعقوبة أخرى إذا ما ارتكب جرما وهو داخل السجن، فهناك مباحث للسجن مهمتها كشف غموض ما قد يرتكب من جرائم بالداخل من جانب النزلاء، والقبض على المتهمين المقبوض عليهم أصلا وتقديمهم لتحقيقات النيابة وإخضاعهم لمحاكمات من جديد.. وأمام هذا الطريق المظلم نفق آخر مضىء على السجين إن أراد قضاء عقوبته بسلام أن يسير بداخله محنى الظهر طوال سنوات وأشهر العقوبة.. هذا النفق هو العمل بداخل السجن، أو الإبداع بالقوة الجبرية وتعلم حرفة أو امتهان الزراعة ليحصل على بضعة جنيهات شهرية يرسلها إلى أهله ربما يتذكرونه بها، وفى المقابل يحقق مكاسب بالملايين تضاف إلى دخل وزارة الداخلية. كل ذلك رصدناه فى زيارة «الشروق» إلى سجن أبو زعبل بالقليوبية ضمن وفد إعلامى رافق المنظمة المصرية للدفاع عن الشرطة والمواطن. استمرت الزيارة 5 ساعات قضينا 3 منها فى جلستين داخل مكتب اللواء عمرو الفرماوى، مأمور السجن ودارت مناقشات عن كيفية الدفاع عن حق الشرطى والمواطن تحولت فى النهاية إلى دفاع مستميت من جانب وفد المنظمة المصرية والقادة الأمنيين عن حق الضباط فقط ونسى حق المواطن بل تحولت قضايا عنف الشرطة ضد المواطن خلال هاتين الجلستين إلى مجرد فرقعات إعلامية و«بيزنس» تقوده الجمعيات الأهلية للتكسب من الخارج والحصول على معونات ورءوس أموال لاستخدامها فى إهانة الشرطة. وصلنا إلى باب السجن فى الثانية عشرة ظهرا، وكانت هناك تشريفة عسكرية فى انتظارنا على المدخل، وصاحبتنا حتى وصولنا إلى مقر رئاسة السجن، وخلال هذا الطريق اصطف جنود الأمن المركزى على جانبى الطريق حاملين الأعلام وفى ثبات الجماد على الرغم من تصببهم عرقا إلا من جاء مكان وقوفه مظللا بشجرة. بعد جلستنا داخل مكتب مأمور السجن الفسيح والحديث عن أهمية رجل الشرطة، انتقلنا الى معرض موبيليات السجن؛ فخم جدا خلف باب حديدى ضخم جدا لم ندخل منه إلا بإشارة من رجال الأمن لقائد الحرس المعين على الباب، وأخذ مأمور السجن ورجال العلاقات العامة بمصلحة السجون يشيدون بجودة تلك الموبيليات ومتانة أخشابها التى وصفوها بأنها من أجود الأنواع كما أن الأسعار ليس لها منافس خارجى. انتقلنا إلى ورش تصنيع تلك الموبيليات الفخمة الراقية لنجد أن صانعيها من السجناء لا تظهر عليهم أى علامات من الرضا عما هم فيه وعلى الرغم من إبداعهم الذى يقدمونه بأيديهم فلا يشعر الواحد منهم إلا بأن ما يفعله ويبدعه لا ينسب له بل ينسب إلى وزارة الداخلية، والإشادات التى تثنى على هذا الإنتاج لا يستمتع بها بل تذهب بهجتها إلى صدور ضباط السجن الذين هم فى نظره أرغموه على هذا الإبداع الإنتاجى. وبعيدا عمن اختارتهم إدارة السجن من المساجين المسموح للإعلاميين بالتحدث معهم، لا يمكن الكلام مع أى مسجون آخر بشكل عشوائى، وحينما حدث ذلك وجدنا رجال المباحث فوق رءوسنا يعلنون غضبهم من الحديث مع هذا المسجون دون علمهم، والغريب أن ضباط المباحث لم يكونوا معنا أثناء حديثنا مع هذا المسجون إلا أننا وجدناهم يعلمون ما دار بيننا وبينه من حديث، فاكتشفنا بعد ذلك أن عددا من المساجين الذى كانوا حولنا هم مخبرون سريون تابعون لإدارة مباحث السجن. انتقلنا إلى معرض المصنوعات الجلدية من أحذية وأحزمة وشنط حريمى وكلها من الجلد الطبيعى المصنوع بأيدى السجناء وعلى الرغم من فرحتنا نحن به إلا أن السجناء لم يهتموا بتلك الفرحة وكل همهم كان منصبا على إمكانية الحديث عن قضاياهم وأنها لفقت لهم من قبل ضباط أو رجال كبار فى الدولة، ولكن ضباط السجن قللوا من أهمية كلامهم وأنه حجة يقولها جميع المساجين لكل من يأتى لزيارة السجن، وفى الحقيقة نفى التهمة كانت الجملة السائدة بين جميع السجناء، إلا واحدا اعترف بجريمته وقال: «أنا قتلت حماتى». فى داخل ورشة تصنيع الأحذية يدور العمل كما لو كان فى مملكة النحل حيث يتم إنتاج 3 آلاف زوج من الأحذية يوميا، والسجين ليس فى وسعه إلا العمل المتواصل حتى وهو يتكلم معك لينهى الحصة المطلوبة منه، ووجدنا أن الكثير من السجناء فى ورشة تصنيع الأحذية يضحكون ويتحدثون معنا بلغة غير مفهومة، فقال لنا أحد ضباط مباحث السجن محذرا: «السجناء هنا عاملين دماغ كُلَّة.. ومحدش يدقق معاهم»، وبعيدا عن دماغ «الكلة» فالمشروبات من شاى وينسون وغيره يتم تجهيزها لهؤلاء السجناء داخل حمامات السجن، كما أن درجة الحرارة فى الورشة تصلح لعمل ساونا، لدرجة أننا شكرنا الله أن الجولة بداخل الورشة انتهت سريعا لنعود لجلستنا بمكتب مأمور السجن المكيف. وبداخل المكتب تم إحضار بعض السجناء الذين اختارتهم مباحث السجن ليحدثونا عن أحوالهم داخل عنابر السجن، وكيف أن أنهم يعيشون حياة رغدة ولا يشعرون بظلم فى داخل السجن وكل ما يطلبونه هو أن ينتهى ظلم الناس عليهم خارج السجن، وقال مأمور السجن إن الكثير من السجناء حينما يخرجون يجدون معاملة سيئة من الناس فى الخارج لدرجة تجعلهم يريدون العودة للسجن مرة أخرى. وتحدث السجناء عن جودة الأسرة التى ينامون عليها داخل العنابر، وحينما طلبنا زيارة العنابر لم يهتم أحد بالاستجابة لطلبنا، وتغير مجرى الحديث إلى مطالب سجناء قضايا المخدرات بتعديل قانون مكافحة المخدرات ليسمح لهم بالخروج من السجن بعد قضاء 3 أرباع العقوبة ليصبحوا مثل زملائهم السجناء فى قضايا أخرى، والغريب أن مأمور السجن وضباطه أعلنوا تضامنهم مع المساجين فى هذا المطلب حتى يكون ذلك حافزا للسجين على الالتزام بحسن السير والسلوك داخل السجن. عرفنا أن السجين يحصل على أجر شهرى 250 جنيها نتيجة أعماله داخل السجن ويتم إرسالها إلى أسرته، وليمان أبوزعبل به 2600 سجين تتنوع أعمالهم بين الزراعة وصناعة الأحذية والموبيليا، وعرفنا أن هناك بعض السجناء الذين حصلوا على تعليم بالداخل ومنهم من التحق بكليات، ولاحظنا أن مأمور السجن يعرف المساجين بأسمائهم. الزيارة انتهت بصورة تذكارية مع مأمور السجن وضباطه دون أن يظهر السجناء فى الصورة على الرغم من أن الزيارة كانت لهم أصلا.