من حين لآخر يفاجئنا بعض موظفى مؤسسات الدولة فى اجتماعات ومؤتمرات عامة ببيانات هى أقرب إلى الفتاوى التليفزيونية المعيبة منها إلى المنطق والعقل والمقارنة العلمية السليمة. من ذلك ما سمعناه أخيرا فى أحد المؤتمرات من أن الديمقراطية ليست شرطا لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأن بلادا مثل الصين وماليزيا وسنغافورة حققت معدلات فائقة من التنمية رغم أنها ليست من الدول التى تتوافر فيها الممارسات الديمقراطية الكاملة. وذلك قول ظاهره الحق وباطنه الباطل، ومقارنة تنطوى على رسالة خطيرة مؤداها أن مصر ليست بحاجة إلى الديمقراطية لتحقيق التقدم. فالتقدم هو نتيجة سياسات تنموية رشيدة مثل السياسات الحالية التى تسعدنا يوميا بإحصاءات وأرقام لا يرى لها الناس أثرا فى حياتهم الكادحة. هذا بالإضافة إلى أنه يحمل تلميحا إلى إنكار الرأى الرسمى للحزب الحاكم والحكومة بأننا نعيش أزهى عصور الديمقراطية، إلا إذا كانا قد تراجعا عن ذلك. هذا الرأى الذى طرح فى مؤتمر عقدته مؤسسة ثقافية علمية اعتادت البحث فى أمور الإصلاح ينطوى أولا على مغالطة منهجية وهى القياس على نماذج نادرة لتعميم نظرية على المجموع، الذى يشمل فى هذه الحالة 132 دولة من دول العالم المصنفة على أنها نامية، ومن بينها مصر. إذا أردنا استكمال الصورة فلا بد أن نذكر أيضا أن قوانين الصين الصارمة أدت فى نوفمبر الماضى إلى محاكمة وإعدام اثنين من مديرى شركة لتصنيع الألبان بتهمة خلطها بمسحوق «الملامين» السام، مما أدى إلى عدد من الوفيات، بينما يرتع فى مصر البارونات اللصوص فى حماية الحزب الحاكم، ويتاجر الوزراء فى أراضى الشعب المؤتمنين عليها، ويهرب المحكوم عليهم بالسجن إلى لندن بعد التسبب فى غرق ألف مصرى فى عبّارة الموت، ويستخدم النفوذ الممنوح بسلطة الدولة لسرقة الأراضى، والتهريب، والرشوة، والاستيلاء على أموال البنوك والهروب بها إلى الخارج ثم التصالح معها، وتفشى الفساد والرشوة والتحايل على القوانين للكسب غير المشروع. وليس هذا بالقياس السليم مع الصين. يجمع خبراء الاقتصاد والاجتماع والمؤسسات الدولية المعنية، والدراسات التى أجرتها أن العلاقة وثيقة بين الحكم الديمقراطى والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ذلك لأن الحكم الديمقراطى الذى يحترم الحقوق المدنية والسياسية خاضع لمساءلة الناخبين الذين يأتون به إلى الحكم ويعزلونه منه إذا لم يحقق تطلعاتهم إلى مستوى أرفع من المعيشة، وحسن استخدام الموارد، وتوفير الخدمات الضرورية وعدالة توزيع الثروة القومية. فالنظام الانتخابى فى الديمقراطيات لا يسمح بحشو صناديق الاقتراع وتزوير النتائج تحت سطوة أجهزة الأمن وفى غيبة الرقابة القضائية. أما الحكم الديكتاتورى فهو لا يخضع لهذه المعادلة، لا فى طريقة توليه الحكم، ولا فى خروجه منه، ولا فى أدائه لأنه لا يخضع لسلطة الشعب وانما الشعب هو الذى يخضع لسلطان النظام ومصالحه. ولما كانت القرارات السياسية والاقتصادية فى النظم الديمقراطية المنتخبة تعكس بالضرورة أولويات الأغلبية التى رفعتها إلى منصة الحكم فهى بالتالى أحرص على تلبية مطالب هذه الأغلبية من الحكم الديكتاتورى المتحجر داخل نظامه السلطوى ومصالحه الضيقة. لذلك فإن دراسات وإحصاءات المنظمات الدولية المتخصصة تبين أن النظم الديمقراطية تحقق معدلات أعلى من التنمية لأنها تستثمر أكثر فى النظام التعليمى والخدمات الاجتماعية وفى التنمية البشرية من النظم الديكتاتورية التى تحتكر تصنيف الأولويات باسم الشعب. وما من ضمان أن الحكام الذين لا تقيدهم سلطة المحكومين سيراعون دائما أولويات الشعب ويخضعون لرغباته أو رقابته. وأما فكرة الديكتاتور الفاضل أو العادل فما هى إلا وهم من اختراع الديكتاتوريات ذاتها. من ناحية أخرى فإن النظم الديمقراطية لا تضع قيودا على حركة المجتمع المدنى فى ممارسة حقوقه السياسية والمدنية وهو بممارسة هذه الحقوق يصبح رقيبا على أعمال الحكومة وسياساتها، ويتحول بذلك إلى عنصر ضغط لا يمكن للحكومة تجاهله لأنها تدرك أنه يستطيع إسقاطها بإسقاط حزبها فى الانتخابات التالية. كما أن المنظمات غير الحكومية والصحافة الحرة ذات المصداقية تشكلان نظاما رقابيا يصعب الإفلات منه. وفى ذلك يقول عالم الاقتصاد الهندى أمارتيا سن الحاصل على جائزة نوبل التذكارية عن دراساته فى الفقر «لا تكاد أن تكون هناك حالة تذكر من حالات المجاعة وقعت فى بلد مستقل وديمقراطى ويتمتع بصحافة لا تخضع للرقابة». كما أن الليبرالية التى تتيح التعبير المحكوم عن الرأى ليست مؤشرا على وجود ديمقراطية حقيقية لأن الديمقراطية تقوم على مؤسسات دستورية راسخة، والليبرالية قد تكون حالة مزاجية. ولا يخفى وجود مدرسة أخرى كانت ترى أن الديمقراطية بما تعنيه من الحرية السياسية والتعددية الحزبية والمحاسبة الحقيقية وحرية الرأى والتعبير إنما تضع قيودا على النظام الحاكم مما يقيد من حريته فى وضع وتنفيذ برامج تنموية طموحة. وكما يوضح الدكتور سلطان أبوعلى أستاذ الاقتصاد ووزير الاقتصاد الأسبق فى كتابه «الديمقراطية والتنمية فى مصر» فإن شيوع بعض نماذج التنمية الاقتصادية فى ظل نظم حكم ديكتاتورية لا تعترف بالديمقراطية أو التعدد الحزبى إنما يرجع إلى تجربة الاتحاد السوفييتى فى عشرينيات القرن الماضى والتى اقتدت بها الدول حديثة الاستقلال فيما بعد. ولكنه يذكر أيضا نكسة كتلة الاتحاد السوفييتى والدول النامية التى أتبعت نموذجه فى التنمية، وتفكك هذه الدول وتدهور الأحوال المعيشية لشعوبها فى المدى الطويل. وفى نفس السياق يعرض مقارنة بين تجربتى دولتين هما يوغسلافيا السابقة والهند حيث كانت الأولى من النماذج الواعدة فى التنمية فى ظل حكم ديكتاتورى بزعامة الرئيس تيتو، بينما كانت الهند من أكثر دول العالم تخلفا فى الخمسينيات بكل المعايير. والآن انعكست الآية. ومن المؤشرات المهمة التى يعتمد عليها الباحثون والمؤسسات الدولية فى تقييم تقدم دولة ما معدلات الفقر والجوع ووفيات الأطفال. وتقدر منظمة «مشروع الجوع» غير الحكومية أن أكثر من ثمانية ملايين و760 ألف شخص يموتون فى العالم سنويا لأسباب تتعلق بالجوع، 75 فى المائة منهم أطفال دون سن الخامسة. أما فى مصر فإن معدلات الفقر بلغت 40 فى المائة من سكان الحضر وأكثر من 45 فى المائة من سكان الصعيد. ومن مؤشرات سوء توزيع الناتج القومى أن معدلات زيادة الدخل القومى فى مصر فى السنوات التى سبقت الأزمة المالية العالمية، أى ما قبل 2009 طبقا لتقرير اليونسيف فى فبراير الماضى لم يعد بفائدة على أطفال مصر الذين يبلغ تعدادهم 28 مليونا، يعيش ربعهم فى فقر مدقع. أما بقية التقارير والإحصاءات الدولية والمحلية عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية فى مصر فى غيبة الحكم الديمقراطى فليس فيها ما يبعث على الفخر. الإيهام بأن التنمية والعدالة الاجتماعية يمكن أن تتحققا فى مناخ غير ديمقراطى إلا بالشعارات يعود للسنوات الأولى لتولى حركة الضباط الأحرار الحكم فى مصر، وبالتحديد فى أزمة مارس 1954 التى كانت خاتمة صراع ممتد بين أعضاء مجلس قيادة الثورة حول عودة الحياة السياسية المدنية أو انفراد الضباط بالحكم بعد تعطيل الدستور وفض البرلمان وحل الأحزاب السياسية وفرض الرقابة على الصحف والحريات العامة. ويروى خالد محيى الدين أحد الضباط الستة الذين أسسوا الحركة فى مذكراته بعنوان «..والآن أتكلم» كيف بعد أن دب الخلاف بين أعضاء مجلس قيادة الثورة حول الحكم اتفقوا فى اجتماع 4 مارس 1954 على عودة الحياة النيابية ووضع دستور جديد وإجراء انتخابات للجمعية التأسيسية فى يونيو 1954، وأن يشكل أعضاء مجلس قيادة الثورة حزبا يخوضون به الانتخابات، وأعلنوا هذه القرارات يوم 5 مارس. يقول خالد محيى الدين «لكن لا بد لى أن أقرر أن عبدالناصر والزملاء فى مجلس الثورة كانت لهم هم أيضا حساباتهم التى تنطلق أولا وأساسا من ضرورة احتفاظهم بالسلطة بشكل أو بآخر. ولم تكن قرارات 5 مارس نابعة إلا من إحساسهم بالمأزق، ومحاولة وجود مخرج يكفل لهم الاستمرار، فلما تراكمت المشاكل وتبينت لهم احتمالات نهوض قوى سياسية أخرى لمعارضتهم خشوا من إفلات الزمام من أيديهم، وتراجعوا عن القرار وانقلبوا إلى النقيض». ويقول خالد محيى الدين إن عبدالناصر كرر فى الاجتماعات التالية للمجلس مقولة ظل متمسكا بها: إما ديمقراطية مطلقة، وإما سياسة الحزم واستمرار الثورة، إما حريات كاملة وتخلينا عن دورنا، وإما أن يعود مجلس الثورة ليمارس كل سلطاته بحزم. ثم يفجر محيى الدين قنبلته قائلا «وطوال هذ الأيام انهمك عبدالناصر فى تنفيذ خطته، فحشد أكبر عدد من ضباط الجيش حوله، وبالتحديد حشدهم على رفض الديمقراطية، وأنها ستؤدى للقضاء على الثورة، وبدأ عن طريق طعيمة والطحاوى فى ترتيب اتصالات بقيادات عمال النقل العام لترتيب الإضراب الشهير «وهو الإضراب الذى خرج فيه العمال يهتفون «تسقط الأحزاب، تسقط الديمقراطية»! «ولك عزيزى القارئ أن تتصور إضرابا لعمال النقل تسانده الدولة، وتحرض عليه، وتنظمه، وتموله.. وأتوقف تحديدا أمام كلمة «تموله» هذه، فقد سرت أقاويل كثيرة حول هذا الموضوع، لكنى سأورد ما سمعته من عبدالناصر بنفسى، فعند عودتى من المنفى التقيت عبدالناصر وبدأ يحكى لى ما خفى عنى من أحداث مارس الأخيرة.. وقال بصراحة نادرة: لما لقيت المسألة مش نافعة قررت أتحرك، وقد كلفنى الأمر أربعة آلاف جنيه». وكانت هذه هى البداية.