ترددتُ كثيرا قبل التعليق على ما ورد فى خطاب الأمين العام للجامعة العربية فى مستهل القمة فى مدينة سرت الليبية. ترددت لأن القمة كانت عادية وقراراتها فاقدة للشجاعة، وكما تميزت القرارات بتوصيف الحالة واجترار قرارات إدانة بدون إجراءات رادعة، أو حتى الاقتراب مع سياسات قابلة للتنفيذ. وعلى كل حال الجماهير العربية لم تتوقع من النظام العربى السائد والمتمثل بالقمم العادية والاستثنائية أكثر مما حصل لأن العرب يعايشون حالة التفكيك. من هذا المنظور جاء توصيف الأمين العام لحال الأمة تعبيرا متميزا اختزل فيه ما يعرفه معظم المشاركين، وما انطوى عليه من خطوط بيانية تشير إلى إدراك للتحديات مع إقرار ضمنى أحيانا وعلنى أحيانا كون غياب أو تغييب التنسيق الملزم بين الأقطار العربية من شأنه إجهاض أية فعالية تقترب من الحقوق القومية المعترف بشرعيتها التى تصوغها القمم العربية إجمالا وحتى القرارات كالتى تبنتها قمة بيروت عام 2002 والداعية لصيغة حل شامل ونهائى للصراع العربى الإسرائيلى، كاد يتحول من سياسة لحل نهائى إلى أحد بنود يمكن شملها فى «مفاوضات قائمة أو قادمة.. أكثر من هذا كله فإن هذا القرار كاد يتحول من صيغة لحل نهائى إلى مجرد شعار مما اضطر خادم الحرمين الملك عبدالله إلى الإعلان بأن صياغة قرار المبادرة لم يعد واردا. *** نشير هنا إلى أن ما أراده الأمين العام للجامعة العربية يندرج فى محاولة جادة لتوفير مدى حيوى استراتيجى للأمة العربية بهدف قيام سياج أمان من عديد من دول الجوار المحيطة بالأقطار العربية وبالتالى إحباط محاولات إسرائيل كما ظهر فى محاولات وزير خارجية إسرائيل ليبرمان فى جعل عدد من دول الجوار فى أفريقيا تطوق الأقطار العربية المعنية كما حاولت مرارا فى الستينيات من القرن الماضى فى آسيا التى اختبرت بعض تجلياتها فى بورما ونيبال وإلى حد أقل سريلانكا كان أحد أهداف إسرائيل فى ذلك الحين تطويق علاقات هندية عربية أرساها جواهر آل نهرو وجمال عبدالناصر كما أنه منذ تلك المرحلة كانت لإسرائيل مثلا علاقات مهمة منبثقة من استراتيجية إسرائيلية تهدف فرض طوق على تعاون أو تنسيق بين العرب ودول الجوار فكان الحلف الاستراتيجى مع تركيا والحبشة وكاد يهدد الكثير من الأقطار العربية فى مجالات كثيرة خاصة فيما يتعلق بمصادر الأنهار كالنيل والفرات مثلا. من هذه الزاوية كانت غريبة جدا الحملة الشديدة التى قامت على أمين عام الجامعة عندما اشتمل خطابه على اقتراح يتعلق بما سماه عمرو موسى «الأمن الإقليمى» وبالتالى مشيرا إلى «البعد النووى الإقليمى الذى يدل على وجود قوة نووية عسكرية قائمة فى القوة الإسرائيلية وقوة أخرى محتملة هى القوة الإيرانية وما يطرحه ذلك من إمكانات سباق نووى وما يتطلب علاجه من إقامة منطقة خالية من السلاح النووى فى الشرق الأوسط تشمل الجميع. «أو لم تكن الدعوة إلى عدم انتشار السلاح النووى إحدى الثوابت العربية التى كانت مصر ولا تزال تدعو إليها عندما كانت إسرائيل وحدها محتكرة للسلاح النووى؟ وكانت إسرائيل ترفض بشكل مستمر الانضمام لمثل هذه الاتفاقيات..؟؟ وحيث إن نقد اقتراحات الأمين العام للجامعة حق مؤكد إلا أن التهجم أو الافتراء أو التشويه أو التشكيك بالنوايا، إنما تنطوى لا على أخطاء واضحة بل على حملة تستهدف إجهاضا مسبقا لأى حوار جدى مرغوب. لست هنا بصدد تفنيد الكثير مما يندرج فى خانة الافتراء الذى يستبعد النقاش الجدى للخيارات القائمة لدعم الأمن القومى وتوفير المناعة، ليس لأمن الوطن العربى وحسب بل أيضا لأمن المواطن، وسط التعقيدات المتنامية التى نواجهها والتى تستوجب استنفارا فوريا لحكماء ومفكرى الأمة إلى جانب حكوماتها ومجتمعاتها المدنية وأن يكون الحديث منطلقا من مبادرة أمين الجامعة العربية تأييدا أو نقدا أو اعتراضا وأن يكون المنهج الموضوعى هو السمة التى تجعل نتائج التحادث المدروس تمكينا لصانعى القرار للحيلولة دون تحول التعميم إلى فوضى وبالتالى استقامة المعادلة التى بإمكانها إدارة الأزمات ومنع تفاقمها من جهة وبالتالى ترشيها للحلول الضامنة. *** وقبل التوجه إلى معالجة ومناقشة أبعاد أخرى من طرح الأمين العام للجامعة العربية، لا مفر من الرد على أطروحات بأن عمرو موسى «تجاوز» صلاحياته عندما تضمن خطابه على مثل هذه «المبادرة»؟! لا مفر من أن أتطرق للإجابة على هذا التساؤل حيث تردد كثيرا فى الأيام الماضية إلى درجة أن البعض طالب باستقالته أو إحالته إلى «التقاعد». لذا لا مفر من توضيح مقتضب لهذا الموضوع قبل التعليق على مضمون مقترحات السيد عمرو موسى الواردة فى خطابه أثناء افتتاح قمة سرت. أعتقد أن هناك سوء تفاهم قائم عن مهمة ودور أمين عام جامعة الدول العربية فهو مؤتمن على قرارات مجالس الجامعة بما فيها قرارات القمة وهو ليس «موظفا» كما يعتقد البعض من الراغبين فى تهميش العمل العربى المشترك. صحيح أنه ليس لدى الأمانة العامة أية أجهزة أمنية لكن جامعة الدول العربية هى المؤسسة التى تقوم بتجسيد قانونية سيادة الدول الأعضاء مع شرعية الانتماء إلى أمة عربية. هذا يعنى أنها بالنسبة لمفهوم الأمة الواحدة هى منظمة قومية فى حين أن الأممالمتحدة مثلا تعتبرها وتتعامل معها كمنظمة إقليمية. يستتبع ذلك أن ما يبدو ازدواجية قائمة هو فى الحقيقة ناتج عن إشكالية فرادة التعامل بين سيادة الأقطار وتباين ظروف إنجاز حركات التحرير. صيرورة استقلاليتها من جهة التى انضوت تباعا إلى عضوية الجامعة وشرعية ورغبة وتصميم على إنجاز توحد وإن متدرجا لأقطار الأمة التى تعززها العديد من الروابط، يفسر التجاوب التلقائى باستشعار وحدة المصير لمختلف شرائح الجماهير العربية. صحيح أن شرعية الأمة العربية طالما تصطدم بمعوقات ناتجة عن سلوكيات سيادية من شأنها تهميش متطلبات الشرعية.. هذا موضوع آخر لكنه يبقى عنصرا يفسر الكثير من محاولات فرض قيود على صلاحيات وتحرك الأمانة العامة مما أفرز العديد من بعثرة لجهود الأزمات التى تعانى منها العديد من الدول العربية خاصة التى تفرزها هشاشة تعريف المواطنة والتى تتيح للعصبيات بشتى تجلياتها أن تتكرس وتترسخ. إن الأمين العام كان يعالج هذه النواقص منذ قيام الجامعة، حرصا على شرعية الانتماء إلى أمة واحدة ومن خلال تأكيد اللحمة الوطنية لكل من الدول الأعضاء. من هذا المنظور علينا أن نتفهم الدور المركزى للأمانة العامة وبالأخص للامين العام. يستتبع ذلك أن المبادرات التى يقوم بها كالتى تمثلت فيما دعا إليه الأمين العام الحالى عمرو موسى يندرج فى صميم مهماته بمعنى أنه مطالب بالبحث المستمر عن خيارات عملية واستراتيجية والنفاذ إلى تسارع المستجدات وإخضاعها لتعزيز الأمن القومى بما يشمل حتما الأمن الوطنى لكل الدول العربية خاصة الاستباحة الشرسة التى تمعن إسرائيل فى القيام بها على فلسطين. ويبدو أن اعتراضات حصلت على مبادرة الأمين العام كون إيران مشمولة فى تكوين المبادرة التى أطلقها. لا مفر فى أن تكون هناك تحفظات على تركيا التى أثبتت حكومة أردوجان تجاوبها الكامل مع الحقوق العربية خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إلا أن هذا لا يعنى إسقاط كامل التحفظات وإن كانت حاليا باهتة لكون تركيا عضوا فى الحلف الأطلسى ولم تتخل بعد عن علاقتها الاستراتيجية مع إسرائيل إلا أن أدلة متزايدة تشير إلى أن تركيا تعيد النظر وبشكل جذرى لهذه الروابط باتجاه ممارسة تدل على مزيد من استقلالية التصرف مما دفع الأمين العام لاعتبارها أولوية فى سياق بناء السياج الأمنى المقترح. أما فيما يتعلق بإيران الذى سبب التهجم بدل اعتماد أسلوب النقد والتحفظ، فإن عمرو موسى كان مستوعبا للهواجس التى قد تشكل معوقات إلا أن استدراكه فى هذا الشأن كما وجود هواجس يسهل فهمها، لا تجيز إسقاط كونها عاملا إقليميا رئيسيا كان سندا فى عهد الشاه لإسرائيل وجاءت الثورة تلتزم مجابهة لها. صحيح أن خطاب عدائها قد يكون بالوعى أو اللاوعى غير منضبط فى إيقاعه، إلا أن هذا لا يجيز إلا الاستمرار فى حوار وجعل تأييده مثلا للحقوق الفلسطينية أكثر إقناعا وأقل استفزازا، كما أن الحوار المقترح يأخذ بعين الاعتبار مصالح مشتركة قائمة من جهة وهواجس ناتجة عن احتلالها لجزر إماراتية فى منطقة الخليج واستبعاد الاحتكام إلى المحكمة الدولية كما إلى اشتباه محاولة تدخلها فى شئون داخلية متعارف عليها. هذا الحوار المقترح باستطاعته عندما يستقيم أن يساهم فى إزالة هذه الهواجس فإيران ليست خصما للقضايا العربية المشروعة لكن هنالك شططا فى اعتبار أن التداخلات الروحية والدينية والثقافية تجيز لها التدخل وهذا ما يجب تصحيحه بحوار جاد ومثمر مما يجعل دعمها لقضايا العرب وعلى الأخص حق المقاومة إضافة مطلوبة لمجابهة العدو الأولى للأمة العربية. *** خلاصة القول إن مبادرة أمين عام جامعة الدول العربية هى من صلب صلاحياته لا بل من صميم واجباته، وأن الحوار المسئول لصيرورة الاستراتيجية المقترحة مفروض انضاجها من خلال نقد بناء وتعريض البدائل لمساءلة وتصحيح عند الاقتضاء. مسئولية الأمانة العامة للجامعة العربية هى فى توفير قراءة مشتركة للدول والمجتمعات العربية وليس الرفض المسبق أو القبول الفورى أو غير المشروط. من هذا المنظور يستحق عمرو موسى التقدير على فتح المجال لإسهام جماعى فى صياغة مشروع الأمن القومى العربى.