أنا أحيا حياة بسيطة للغاية. فى أغلب الأيام أستيقظ من النوم قبل المنبه بدقائق، وأستعد لمقابلة الدنيا، وأنزل للشارع. أقابل القط الأسود، وينقبض قلبى، وأبدأ يومى. ظل القط الأسود هو أول من أراه فى الشارع صباح كل يوم، سواء كنت فى القاهرة، أو الإسكندرية، داخل مصر أو خارجها، فى مدينة نصر أو المعادى أو المهندسين. أيام عملى فى مصر الجديدة، كان إذا لم يقابلنى فى الصباح أسفل عمارتى، أجده يمشى على سور الحديقة التى يطل عليها شباك مكتبى. نفس القط الأسود، بنفس العيون الخضراء، ونفس التعبير اللامبالى. إذا كان اقترب منى فى أى يوم طوال السنوات الماضية، لقلت إنه روح تحرسنى، أو شخص أعرفه محبوس فى جسد قط. ولكن كلا، لم يحاول القط الأسود أبدا أن يقول لى شيئا. مع الوقت أصبحت أبحث عنه كل صباح، وأقلق إذا لم أجده. وعندما أجده ينقبض قلبى، وأحاول أن أنظر فى عينيه، ولكنه يتجاهلنى.. ويمضى. استمر هذا النظام لحياتى طوال السنوات العشر الأخيرة، حتى بدأت مرحلة حبى للقطط. ومنذئذ وأنا أهز رأسى للقط الأسود فى الصباح محيية إياه كل يوم. وهو، شامخ كتماثيل القطط الفرعونية، لا يكترث بتحيتى ويمضى لأمور أهم. بعد تفكير عميق أدركت أن أفضل حل للتخلص من القط الأسود هو اقتناؤه. خيل إلى أنه ربما إذا نجحت فى جعله مِلكى سيحبنى ويفتح قلبه لى ويوضح دوره فى حياتى. بدأت فى رحلة بحث سرية (لأن أمى تكره القطط) عن قطى الأسود بعيونه الخضراء. قررت أن اسمه سيكون جعفر، وأخذت أتحدث عنه مع أصدقائى، وأضع صوره فى كل مكان. رأيت الكثير من القطط السوداء، ولكن أبدا لم يكن جعفر بينهم. خطر لى أن أجرى خلفه فى الصباح عندما أقابله وأمسك به، ولكن شعرت أن مثل هذا الفِعل قد يعطيه الانطباع الخاطئ عنى، ويجعلنى أبدو كخطافة قطط، ومن سيريد أن يفتح قلبه لإنسانة طاردته فى الشوارع وهزت هيبته أمام القطط المشمشية والرمادية؟ ولكنى اليوم استيقظت بقرار حاسم: أنا لا أريد أن أقتنى جعفر أبدا. سيعيش جعفر فى خيالى كغاية، كرمز، كتذكِرة لى بكل أحلامى التى تتسرب من يدى عندما أطاردها، وتأتينى عندما أزهدها. لا أريده حبيسا، بل حرا ووحشيا كأفكارى، حتى لو تجاهلنى، حتى لو لم أعرف أبدا سبب وجوده فى حياتى. قمت من سريرى وأنا مستريحة لقرارى، وأعددت نفسى لهذا الصباح، ونزلت الشارع. كان علىّ أن أسير قليلا حتى سيارتى. نظرت بجوارى وإذ بقط أبيض يقفز فوق بركة مياه كبيرة بمنتهى الرشاقة والرقى، ليهبط على الجانب الآخر بدون أن يمس الماء، ويجلس فى ثبات وثقة وكأن هذه القفزة العملاقة هى أقل ما يمكن أن يؤديه من أفعال مبهرة. ضحِكت وقلت فى سرى: «يا سلام؟ يعنى خلاص، مش عايز تبل رجلك للدرجة دى؟» فالتفت لى القط وقال «مياو»، فقلت «مياو» وهززت رأسى محيية وأخرجت مفاتيحى. وقبل أن أهم بفتح السيارة أدركت ما حدث، فجمدت فى مكانى والتفتّ ببطء: نعم، إنه قط، وأبيض، وقال لى مياو. أجلت النظر حولى فى الشارع. لا أثر لجعفر. نظرت للقط الأبيض، واقتربت بتمهل وقلت له مياو، فقال مياو، واقترب. رَبتّ على رأسه ودلكت أسفل ذقنه، فقال مياو أطول من الأولى، وأدار رأسه فى يدى يمينا ويسارا ليحصل على أكبر قدر من الدفء. استدرت وركبت السيارة، وأدرت المحرك وأنا أعرف أننى لن أرى جعفر بعد اليوم، أبدا.