حبا الله مصر بتنوع حضاري وتراثي يندر أن يوجد فى مكان آخر ولو وضعنا خريطة تضم آثار مصر خلال العصور المختلفة لن يخلو شبر من هذه الآثار سواء فوق الأرض أو تحتها. وهذا التنوع لو أحسن استغلاله تصير السياحة هي قاطرة التنمية في مصر متفوقة على البترول. فى سفح جبل المقطم وفى منطقة يصعب التعرف عليها أو الوصول إليها ووسط مقابر الغفير تقبع منطقة تضم بين جنباتها آثار أقطاب التصوف فى مصر، والغريب أن تحتوى هذه المنطقة على عناصر مختلفة ومتباينة؛ بين قرافة ومسجد وبيت وقبة، بخلاف مساجد لطائفة البهرة، ويطلق على هذه المنطقة القرافة الصغرى، وكذلك قرافة المتصوفين. الصوفية رافد مصري أصيل نشأ على يد ذى النون المصري مؤسس وواضع بذرة التصوف في مصر، ومنها انتقلت الى سائر البلاد العربية، كان لدى ذو النون المصري ثقافته العلمية وأيضا الدينية والروحية، وتشير أغلب المراجع إلى اثنين تعلما وتتلمذا على أيديهما، هما إسرافيل وشقران العابد، ويرجح أن إسرافيل هذا كان أحد معلمي الغنوسية، وقد تطرق هذا الصوفى إلى موضوعات كثيرة مثل: النفس الإنسانية، والأخلاق البشرية، وقضية الجبر والاختيار، والمعاني الروحية فى مناسك الحج، والأخوة فى الله، وعلم الباطن، وحقيقته والمعرفة وسبيل الوصول اليها، والمحبة الإلهية، والمحبة والمعرفة. هذا المتصوف جذب كثيرين مما جعل منزل ذى النون المصرى قبلة لكل المتصوفة وبعد وفاته أوصى كثير من المتصوفة بالدفن فى هذا المكان. ثم ذاع صيت هذه المنطقة أكثر وجذبت أيضا طائفة البهرة الذين حرصوا على الوجود فى هذا المكان وأقاموا عدة مساجد لهم. كان لا بد من هذه المقدمة حتى نتعرف على الخلفية التاريخية هذه المنطقة وأهميتها. أما عن آثار تلك المنطقة، فأهمها: قبة ابن الفارض فى سفح جبل المقطم يقع مسجد سلطان العاشقين عمر بن الفارض الذى يحتفى به الصوفيون كثيرا، فصاحبه عمر بن الفارض، وهو واحد من كبار الشعراء الصوفيين، ويحفل بشعره الشعراء والدارسون، ويصف بعضهم ديوانه بأنه أرق الدواوين شعرا. وقد توفى فى سنة 632 هجرية «1235م»، ودفن بالمقطم، وبعد أكثر من قرنين من الزمان، وفى سنة 865 هجرية «1460م» أقام الأمير برقوق الناصرى الظاهرى قبة على قبره، وهى قبة صغيرة مبنية بالحجر. أقيمت على أربعة عقود مفتوحة وسطحها محلى بالنقوش وتتميز هذه القبة بالمقرنصات التى فى الأركان الأربعة للقبة، ومع القبة كان المسجد الذى جدده بعد ذلك بثلاثة قرون تقريبا فى سنة 1173 هجرية «1759م» أمير اللواء السلطانى على بك قازدغلى أمير الحج، وبقايا هذا المسجد تضم عمودين حجريين ومحرابا حجريا ودكه للمبلغ وبقايا منبر، وعلى جزء من أرض هذا المسجد القديم أنشأت المسجد الحالى الأميرة جميلة فاضيلة هانم ابنة الخديو إسماعيل، عمة الملك فاروق فى سنة 1307 هجرية «1889م»، وجعلته مسجدا مستطيلا تحمل أسقفه أربعة أعمدة حجرية، وله محراب ومنبر يتميزان بالبساطة وألحقت به حديقة صغيرة، ولكن حال هذه المجموعة المعمارية قد تغير كثيرا فطالت يد التجديد هذه القبة الرائعة وتم دهانها من الداخل بألوان بعيدة تماما عن روح الأثر. قبة الخلوتى تقع جنوب قبة عمر بن الفارض بسفح المقطم وكانت هناك فوق باب القبة لوحة من الرخام عليها كتابة نصها (بسم الله الرحمن الرحيم أنشأ هذا الجامع وأوقفه العبد الفقير إلى الله تعالى جمال الدين عبدالله نجل العارف بالله شاهين الشيخ الخلوتى افتتح عام 945 ه، وكتابة أخرى منقوشة فى داخل القبة ذكر تاريخ تجديدها سنة سبع بعد الألف. وتحت رقم 212 تم تسجيل جامع شاهين الخلوتى فى سجلات الآثار باعتباره واحدا من أهم معالم مدينة القاهرة القديمة، وقد جاء ذكر هذا المسجد فى كتاب على باشا مبارك «الخطط التوفيقية»، ووصفه بأنه يقع بسفح المقطم، ويصعد إليه بمزلقان، وبه أربعة أعمدة من الحجر، وقبلته مشغولة بقطع من الرخام الملون والصدف، يكتنفها عمودان من الرخام، ومنبر خشبى، ودكة قائمة على عمود من الرخام، وتتمثل ملحقات المسجد فى مساكن وخلوات للصوفية، ومقابر منحوتة، وبعضها مبنى، وصهريج للماء، وبيت خلاء، بالإضافة لمجموعة من المغارات المنحوتة فى الصخر على مستوى واحد أو على مستويات مختلفة من الجبل، وكان يتصل بعضها ببعض بأنفاق ويتم الوصول إليها بدرجات منحوتة فى الجبل. وبالرغم من أن هذا الأثر مسجل إلا أن حالته متدهورة جدا ولم يبق منه سوى المئذنة والحائط الجنوبي وأصبح على وشك الانهيار، ولم يعد هناك مسلك للصعود إليه بعد أن حاصرته المدافن الحديثة. قبة الأسباط وهى تجاور منزل ذى النون المصري، وتشير المصادر التاريخية أن إخوة يوسف مدفونون تحتها، ويجاور هذه القبة مقعد من دورين، عبارة عن عدة حجرات مغطاة بقبوات متقاطعة، وبها محراب مزين بزخارف نباتية يشهد على عظمة الفنان الذى قام بإعداده، وهى فى مجملها غاية فى الروعة والفن المعماري المتميز، ولكن للأسف صارت مقلب زبالة كما تهدمت بعض أسقفها. قبة جميلة هانم وهى التى اهتمت بقبة ابن الفارض ويحيط بها سور وحديقة ولها باب خشب أثرى وللأسف أيضا أصبحت فى حالة يرثى لها، بخلاف تربية الدواجن التى يقوم بها حراس المدفن مما جعل المنطقة فى غاية السوء. مسجد اللؤلؤة (ملكية خاصة) وهو مسجد أثرى ينتمى لطائفة البهرة وترجع تسميته بذلك لأنه عند إضاءته مساء يصير مثل اللؤلؤة وسط الجبل ولكن الغريب أن المسجد أغلق فى وجوهنا ومنعنا من زيارته لأنه حسب تعليقهم هو مسجد خاص ولا يدخله سوى البهرة. يعوزنى الكثير حتى أسرد كل المعالم الأثرية فى هذه المنطقة ولكن أكتفى بهذا القدر لافتا أن هذه المنطقة تتعرض للتدمير والاختفاء وهذا سوف يكون فى غضون مدة قصيرة. خاصة أن المنطقة تعانى قصورا أمنيا شديدا، وفقا لتحذيرات بعض أفراد الأمن لنا من التجول بمفردنا، لذا لابد أن تولى هذه المنطقة الاهتمام لتعود رافدا مهما للسياحة الدينية، خاصة أن عشاق التصوف منتشرون فى العالم أجمع خاصة المستشرقين المغرمين بفكر ذى النون المصرى ومريديه.