بعد مرور عام على تولى الرئيس الأمريكى أوباما الرئاسة وتصدّر قضية الشرق الأوسط قائمة أولوياته الخارجية تراجع عن حماسه وتصميمه ليعلن أنه يشعر بالإحباط وأنه فشل فى اختراق القضية. وبعد أن كانت إدارة أوباما قد جعلت من وقف بناء المستوطنات الإسرائيلية التزاما حاسما بحسن النوايا من جانب إسرائيل انتهى الأمر بوزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون إلى كيل الثناء على رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتانياهو لمجرد أنه وعد ب«ضبط النفس» وهو يمضى قدما فى بناء المزيد من المستوطنات، ورفض استثناء القدسالشرقية من التوسع الاستيطانى وطرد الفلسطينيين من منازلهم لكى يستولى عليها المستوطنون الإسرائيليون، والاستمرار فى الحفريات تحت المسجد الأقصى. ماذا حدث لأوباما ولتصريحاته الواعدة من قلب جامعة القاهرة فى يونيو الماضى؟ وما نتيجة جولات ميتشل وكلينتون المكوكية طوال عام من رئاسة أوباما؟ يذهب بعض خبراء السياسة إلى أن الرئيس الأمريكى استهان بقوة إسرائيل ونفوذها داخل كل زوايا المجتمع الأمريكى ومؤسساته، وأن المواجهة الخفية معها حول ما يسمى بعملية السلام زادت نتانياهو قوة وشعبية فى إسرائيل. خطاب أوباما فى جامعة القاهرة الذى قال فيه أن الولاياتالمتحدة «لا تقبل بشرعية استمرار المستوطنات الإسرائيلية»، وهو ماسبق أن أكده مجلس الأمن الدولى وبتصويت أمريكى قبل 35 عاما، أثار حفيظة الإسرائيليين واليهود الأمريكيين ضده، ودفعهم إلى مضاعفة التأييد لنتانياهو وسياسات الاستيطان، ربما لأنهم أدركوا أنه لا يملك الإرادة ولا الرغبة فى الدخول فى مواجهة مع إسرائيل. كما أن مشكلات الإصلاح الاقتصادى والمالى والتأمين الصحى الشامل وزيادة معدلات البطالة قد أنهكته ونالت من شعبيته، التى هبطت من 66% عند توليه الرئاسة إلى أقل من 50% الآن (ووصلت شعبيته فى إسرائيل إلى 4%). فهل كان أوباما هو الجبل الذى تمخض فى القاهرة فولد فأرا فى إسرائيل؟ ثم إن السؤال الذى نادرا ما يطرح هو: وماذا يفعل العرب؟ ربما كان جانبا من إحباط الرئيس الأمريكى هو إدراكه أن العرب بأوضاعهم الراهنة لا يملكون ضرا و لا نفعا لإسرائيل، ولا للولايات المتحدة، ولا لأنفسهم. والثابت أن الرؤساء الأمريكيين السابقين على عكس أوباما لم يعطوا قضية الصراع فى الشرق الأوسط إلا أقل القليل من اهتمامهم وفقط فى الحالات، التى يسبب فيها هذا الصراع قلقا على المصالح الأمريكية، لا أكثر. ولم تنشط السياسة الأمريكية إلا فى حالات انفجار صراع مسلح أو عدوان إسرائيلى يزعزع حالة الجمود السائدة فى المنطقة، التى ترتاح إليها إسرائيل والولاياتالمتحدة بالتبعية، وهى فى كل الأحوال باستثناء حرب أكتوبر 1973 وغزو لبنان فى 2006 لم تتحرك إلا بضغوط أوروبية لإنقاذ طرف عربى من براثن إسرائيل، أو لدرء مخاطر التدخل السوفييتى فى الماضى. وباستثناء فترة حرب أكتوبر وما تبعها فإن فترات الاهتمام الجاد بالشرق الأوسط لم تكن تتجاوز الأشهر النهائية القليلة من الفترة الرئاسية الثانية لأى رئيس أمريكى منذ جون كينيدى وحتى الفترة الثانية لجورج بوش الابن. إذا اتفقنا أن السياسة الأمريكية فى الداخل والخارج تحرّكها المصالح وجماعات الضغط التى تمثلها فإن السؤال البديهى هو: ما الذى تخشاه الإدارة الأمريكية من إغضاب العرب؟ وما الذى تخشاه من مواجهة إسرائيل؟ الإجابة عن السؤال الأول هى: لا شىء، وفى الحالة الثانية هى: كل شىء. فالنظم العربية الحاكمة وهى تملك كل شىء تقريبا تجد حمايتها وأمنها واستقرارها فى الوجود الأمريكى، والولاياتالمتحدة التى تدين باحتياجاتها الإستراتيجية لهذه الدول تستغل هذا الشعور بعدم الأمان لتفرض حمايتها على تلك الدول. وهذا هو درس الغزو العراقى للكويت فى عام 1990 ونجاح التحالف الدولى بقيادة الولاياتالمتحدة فى طرد قوات صدام حسين منها فى العام الذى تبعه. حتى النظم التى لا تواجه خطر غزو عسكرى مباشر من دولة إقليمية قريبة تسعى لهذه الحماية خوفا من شعوبها التى تعانى من قمع تلك النظم. إنه ابتزاز المافيا السياسية بامتياز، والولاياتالمتحدة تفهم هذه التركيبة المعقدة للدول العربية، وتدرك حدود تلك الدول والدوافع التى تحكم سلوكها السياسي. أما بالنسبة لإسرائيل فإنها تلعب فى ساحة مفتوحة لا ينافسها فيها أحد، وتستطيع أن تهدد بإسقاط أعضاء الكونجرس المناوئين، وطرد أساتذة الجامعة الناقدين بحجة معاداة السامية المملة، إلى سحق آمال الرئيس الأمريكى فى فترة رئاسة ثانية باستغلال كل ألوان المشكلات الداخلية. والحالة الفلسطينية تحمل تعقيدات أكبر بحكم الانقسام السائد بين السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس فى رام الله وحكومة حماس المقالة بزعامة إسماعيل هنية فى غزة، وهو وضع يعكس التفكك والشكوك العربية حول توجهات وانحيازات الطرفين الفلسطينيين. وللحقيقة التاريخية فإنه ما من حركة تحرر وطنى إلا وعانت من انقسامات داخلية وخلافات عقائدية وتكتيكية، بدءا من الثورة البلشفية فى منتصف العقد الثانى من القرن العشرين الى جبهة التحرير الوطنى الجزائرية فى منتصف الخمسينيات. المشكلة فى حركة التحرر الوطنى الفلسطينية أنها استسهلت القفز على منصة الحكم مبكرا واختارت طريق المفاوضات مع عدو لم تنضجه بعد ظروف المقاومة المسلحة أو التطورات الدافعة على الساحة الدولية العربية. كما أن قادة حركة التحرير الفلسطينية منذ بداياتها أكلوا على جميع الموائد العربية وشربوا تناقضاتها سعيا وراء التأييد من جانب عربى أو آخر، أو لمصالح شخصية. المشكلة الكبرى أن الأطراف العربية لم تفرز خياراتها بشكل واضح وحاسم يتفق مع مصالح شعوبها ولا يقتصر على إحكام القبضة على عروشها أو كراسى الرئاسة الأبدية والتوريث العائلى فيها. والسؤال الحاسم فى هذه الشبكة المعقدة من التحالفات والمصالح والولاءات: ما هو التهديد الحقيقى للعرب فى الماضى والحاضر والمستقبل.. إسرائيل الطاغية أم الفزّاعة الإيرانية؟ التوسع الاستيطانى الإسرائيلى أم المد الشيعى الإيرانى المزعوم؟ أليس من المستغرب أن إسرائيل تقف على حدود الأردن فى الضفة الغربية، وبنيامين نتانياهو يعلن صراحة أن بعض أراضى الضفة الغربية ستبقى جزءا من إسرائيل إلى الأبد، وتصريحات زعماء إسرائيل المتكررة تعلن أن الأردن هو الوطن الطبيعى للفلسطينيين، بينما يحذر قادة الأردن من خطر تمدد «الهلال الشيعى» فى المنطقة؟ ألم يحن الوقت لأن يقوم العرب بإعادة فرز أولوياتهم ومصالحهم؟ هناك الكثير مما يدعو للظن أن جزءا من إحباط أوباما هو أن الدول العربية تريد التخلص من عبء القضية الفلسطينية بتحميلها للولايات المتحدة، بينما تكتفى هى بالتصريحات الطنانة، والمشاورات التليفونية، والاجتماعات الزعامية، ومؤتمرات القمة الفخمة، والإيهام بأنه لا هم لها إلا القضية الفلسطينية. وكأن الزعماء العرب ينتظرون من الولاياتالمتحدة أن تستجديهم بصوت صاخب أن يضغطوا عليها أو على إسرائيل بكل ما هو متاح لدولهم من إمكانات لقلب موازين الصراع لصالحهم ولصالح القضية الفلسطينية الضائعة إلا من كفاح وتضحيات الشعب الفلسطينى فى مواجهة الترسانة الإسرائيلية القاتلة! ماذا يمكن أن يحدث لو لوّحت دول الخليج بسياسة تقارب مع إيران وإبرام اتفاقيات بعدم الاعتداء أو للصداقة والتعاون معها؟ وماذا لو طلبت قطر أو البحرين مثلا تصفية القواعد الأمريكية فيها؟ وماذا يمكن أن يحدث لو بعثت الدول العربية وشجّعت من جديد حملة مقاطعة إسرائيل؟ أو تعاونت مع منظمات أوروبية لمقاطعة صادرات إسرائيل أو سحب الاستثمارات منها حتى تمتثل لقرارات الأممالمتحدة مثلما فعلت المقاومة لإنهاء سياسة الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا؟وماذا لو حاولت الدول العربية بتصميم جدى اختراق الرأى العام الأمريكى على النحو الإسرائيلى على الأقل لتبصيره بمصالحه الحقيقية فى الشرق الأوسط؟ ماذا لو هددت الدول العربية بتوافق عربى تركى إيرانى لمواجهة سياسات إسرائيل العدوانية بديلا عن التحالف العربى الأمريكى بل وفزع بعض الأنظمة العربية من عدم الرضا الأمريكى عنها؟ حان الوقت لأن تدرك الدول العربية أن إسرائيل ليست جادة إلا فى التوسع الاستيطانى فى الأراضى العربية الفلسطينية، وإرهاق المفاوضين العرب والفلسطينيين بمناورات لا نهاية لها حتى يستسلموا لأطماعها فى أن يتحول الشعب الفلسطينى وحقوقه إلى نموذج عصرى من قضية الهنود الحمر: يقطنون مستوطنة محاصرة، ويتم الإبقاء عليهم لعرضهم للأغراض السياحية فقط على أنهم من بقايا «السكان الأصليين» للمنطقة قبل أن تتحضر وتتطور على يد إسرائيل. ورغم هتافات العرب ومظاهراتهم ومؤتمراتهم القممية فإن هذا المخطط كان يمكن أن ينجح منذ زمن بعيد لولا تمسك الشعب الفلسطينى بحقوقه ودفع الثمن بالدم من جيل إلى جيل. إن خلق تحالفات أو توافقات إقليمية بين الدول العربية وإيران بالذات يمكن أن يضبط التوازن الإستراتيجى فى الشرق الأوسط، الذى يميل الآن بشدة لصالح إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب عموما، رغم تصور بعض الدول العربية أنها فى مأمن من أطماع إسرائيل لأنها تستظل بالحماية الأمريكية، وأن الدم الذى تسفكه إسرائيل يوميا إنما هو فى النهاية دم فلسطينى فقط.