من المعروف أن علماء المصريات قد قسموا التاريخ المصرى القديم إلى عصور كبرى تعرف باسم الدول القديمة والوسطى والحديثة، تسبقها وتفصل بينها فترات انتقالية، كما قاموا بحصر حكام مصر فى أسرات متتابعة حددوها بثلاثين أسرة، وفقا لتقسيم الكاهن المصرى مانيتون. ويرى المؤرخون أن عصر الدولة الوسطى يمتد فيما بين سنتى 2022 و1650 قبل الميلاد على وجه التقريب، وتبدأ الدولة الوسطى بتوحيد البلاد مرة أخرى على يد منتوحتب الثانى من ملوك الأسرة الحادية عشرة، وذلك عقب عصر الاضمحلال الأول الذى تفككت فيه البلاد واضطربت أحوالها. ويتميز عصر الدولة الوسطى بنهضة كبيرة فى مختلف مجالات الحياة المصرية، فقد شهد ذلك العصر إصلاحات واسعة فى الجهاز الإدارى للدولة، صحبها تعديل جديد فى البنية الاجتماعية وظهور طبقة وسطى شاركت الطبقة الحاكمة فى امتيازاتها، وكان ذلك مواكبا لتطور فى المعتقدات الدينية ونهوض فى مجال الثقافة والأدب، فقد قدم عصر الدولة الوسطى مجموعة من الأدباء المؤسسين للثقافة المصرية، كما قدم بعض الأعمال التى تعد من روائع الأدب العالمى مثل قصة سنوحى. وتميز عصر الدولة الوسطى كذلك بنهضة زراعية كبيرة، تم خلالها إضافة مساحات واسعة إلى الرقعة الزراعية بعد استصلاح منطقة الفيوم، التى كانت حتى ذلك العصر مغطاة بالأحراش. وفى هذا العصر انفتح المصريون على العالم المحيط بهم ودخلوا فى علاقات مع جيرانهم خصوصا سوريا وفلسطين وجزر البحر الأبيض المتوسط، كما ضمت النوبة السفلى إلى الأراضى المصرية فى تلك الحقبة، واستقبلت مصر فى ذلك العصر موجات متوالية من الوافدين. والنص الذى نقدمه اليوم نص لمرسوم ملكى من عصر الدولة الوسطى، يبين كيف كانت مصر تتعامل مع الوافدين إليها من أبناء الشعوب المحيطة بها، إذا طلبوا حق اللجوء، وكيف كان هذا البلد واحة للأمان عبر العصور. لقد شهدت منطقة الشرق الأدنى حركات هجرة واسعة فى الألف الثانية قبل الميلاد، إذ دفعت موجات القحط والجفاف المتتابعة، والصراعات بين القبائل والشعوب فى المنطقة، من البدو والرعاة إلى القيام بهجرات جماعية وفردية متوالية. فقد تحركت مجموعات من سكان غرب آسيا بعيدا عن البوادى والمناطق شبه الصحراوية متوجهين إلى أودية الأنهار الكبيرة فى مصر والعراق. وفى كثير من الحالات كانت هذه الهجرات مصحوبة بموجات من العنف والعنف المضاد الذى وصل إلى حد الحروب الدموية فى بعض الأحيان. ورغم السياسة المنفتحة تجاه العالم الآسيوى التى اتبعتها مصر فى عصر الدولة الوسطى، فإنها كانت تتعامل عادة بحرص وحذر مع الوافدين من الشرق خصوصا البدو الآسيويين، فقد عانت مصر من غزواتهم على الدلتا فى أواخر عصر الدولة القديمة، فموقع مصر وثرواتها الزراعية كانت تغرى دائما سكان الصحراوات والبوادى المحيطة بالهجوم عليها خصوصا فترات المجاعات. إلا أنه فى عديد من الحالات سمح للمهاجرين بالدخول إلى البلاد للعيش فيها بأمان بعد تقديم المبررات اللازمة لهذه الإقامة، كما جاء فى مرسوم ملكى صادر فى عهد سنوسرت الثانى. ويعد سنوسرت الثانى من أبرز ملوك الأسرة الثانية عشرة فى الدولة الوسطى، حكم مصر بين سنتى 1897 و1878 قبل الميلاد وفقا لأرجح التقديرات والتى وردت فى موسوعة الفراعنة لباسكال فيرنوس وجان يويوت، وهو ابن الملك أمنمحات الثانى وخليفته الذى شاركه الحكم لمدة ثلاث سنوات. وتعد فترة حكم سنوسرت الثانى بمثابة عصر الانتقال من النظم والتقاليد التى سادت منذ عصر الدولة القديمة، إلى نظم الدولة الوسطى وتقاليدها. وكذلك بدأت فى عهده أهم المشروعات الكبرى التى تميز بها عصر الدولة الوسطى، مثل: بناء التحصينات العسكرية فى جنوب الوادى، ومشروع استصلاح منطقة مستنقعات الفيوم، ومن أهم آثار سونسرت الثانى مجموعته الهرمية فى اللاهون. لكن ماذا يقول نص المرسوم: «فى السنة السادسة فى عهد جلالة الملك حور سيد الأرضين، ملك مصر العليا والسفلى خبر رع سنوسرت الثانى، دخل جماعة من الأسيويين عددهم سبعة وثلاثون شخصا إلى البلاد، وسمح لهم بالإقامة بمساعدة الأمير خنوم حتب، وذلك لما حملوه من أسباب ومبررات تسمح بلجوئهم». لقد تم الكشف عن هذا النص المدون على جدران مقبرة من مقابر منطقة بنى حسن بمحافظة المنيا فى أواخر القرن الماضى، وهى مقبرة أحد كبار رجال الدولة، ويدعى خنوم حتب وكان يشغل وظيفة مدير خزانة الإله، وخنوم حتب هو نفسه الذى توسط من أجل السماح لهذه المجموعة من الأسيويين بالدخول إلى البلاد والعيش فيها، وقد أطلق على أولئك الوافدين اسم العامو. وتصور الجدارية الموجودة بمقبرة خنوم حتب مشهد استقبال «العامو»، حيث يتقدمهم كبيرهم وأمامه الكاتب الملكى نفر حتب يحمل لوحا عليه المرسوم الذى يسمح لهم بدخول البلاد. وهذه الجدارية مهمة للغاية ليست فقط بسبب نص المرسوم الذى حفظته لنا، بل كذلك لأنها صورت أشكال هؤلاء الأجانب، وأزياءهم بألوانها الزاهية والتى نتعرف من خلالها على بعض جوانب حياة الشعوب التى عاشت متنقلة ما بين منطقة بلاد الرافدين ووادى النيل. لكن ما هى دلالة هذا النص القديم؟ يؤكد هذا النص أن مصر كانت ملجأ لكثير من أبناء الشعوب المجاورة، تستقبلهم برحابة ماداموا فى حاجة إلى الملاذ الآمن، وما داموا يحترمون نظم البلاد وتقاليدها، فتحقق فى مصر بذلك ومنذ أكثر من 3500 سنة مفاهيم إنسانية يحرص عليها اليوم القانون الدولى الإنسانى الذى يدعو لتوفير الحماية لمن يصبحوا لاجئين بسبب الظروف القاهرة التى تؤدى بهم إلى ترك بلادهم، ومن الأمور الطريفة التى تحيط بهذه الجدارية والتى أوردها سليم حسن فى الجزء الثالث من كتابه مصر القديمة: «إن هذه الجدارية عندما كشفت ظن بعض العلماء أنها تمثل رحلة نبى الله إبراهيم إلى مصر، أو تسجل دخول النبى يعقوب وأولاده إلى البلاد». وإن كان سليم حسن يرى أن هذه الجدارية لا علاقة لها إطلاقا بقصص العهد القديم من الكتاب المقدس، ولكنها تمثل حقيقة واقعة وهى أن الزيارات التى كان يقوم بها الأسيويون فى ذلك العصر طلبا للملجأ والأمان كانت متكررة.