لا يقلقنا حظر بناء المآذن فى سويسرا، ولكن ما يقلقنا حقا هى مشاعر النفور التى دفعت 57٪ من الناخبين السويسريين إلى تأييد الحظر. فما كانت المآذن يوما ما جزءا أساسيا من المسجد. وما كان شكله ومعماره موضوعا شغل به المتدينون فى أى وقت، وهم الذين عرفوا أن المسجد هو كل مكان طاهر يصلح للسجود فيه. إذ ظل شاغلهم هو وظيفة المسجد لا عمارته. فقدم المعنى على المبنى. ورغم تعدد الأحاديث التى امتدحت مناقب المؤذنين، إلا أننا لا نكاد نجد أثرا واحدا يخص المئذنة. إذ ظل المهم هو أن يدعى الناس إلى الصلاة وأن يبلغوا بمواقيتها لكى يتعبدوا لله ويسجدوا له وحده. أما كيف يتم ذلك فهو شأن المسلمين يتعاملون معه كيفما شاءوا. فى المرحلة النبوية كان الصحابى بلال بن رباح يعتلى أى سور أو بناية، لكى يرفع الآذان، ولم تعرف المآذن إلا فى العصر الأموى، على ما يذكر الدكتور مصطفى البدوى فى كتابه «لطائف الإشارات فى أسرار المآذن والمنارات». فحدثنا أنه فى خلافة معاوية (سنة 45 هجرية) تم تجديد مسجد البصرة وجعل له منارة من الحجارة. وفى سنة 53 هجرية أمر معاوية عامله على مصر ببناء أربع مآذن فى أركان مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط. فلما كثرت مساجد الخطبة (التى تقام فيها صلاة الجمعة) أمر الوالى ببناء المآذن فى جميع المساجد بمصر. وهو ما تكرر فى مسجد رسول الله بالمدينة وبالمسجد الأموى بدمشق. ومنذئذ أصبحت المئذنة جزءا من تصميم المسجد وشكله التقليدى. لكن المسلمين ظلوا مدركين أن غيابها لا ينتقص من أمر المساجد شيئا إلا فى حدود الشكل المعمارى. وكان ذلك شأن الزوايا التى انتشرت فى مختلف بقاع العالم الإسلامى، وفى أفريقيا بوجه أخص. المئذنة خارج العالم العربى والإسلامى أصبحت من معالم الهوية الإسلامية التى يتعلق بها ويحرص عليها المسلمون فى شتاتهم. وهى الهوية التى لا يحتاجون إلى إثباتها فى بلادهم. من هذه الزاوية فإنها اكتسبت أهمية خاصة لدى المسلمين المهاجرين. إذ رغم أن الحظر تم فى سويسرا ينصب على المآذن فقط وليس على المساجد، ورغم أنه لن يعطل شيئا فى أداء المسلمين لصلواتهم. إلا أن من حقهم أن يتوجسوا شرا من قرار حظر مآذن المساجد. لأنه يبدو موجها ضد الهوية الإسلامية التى تدل مؤشرات عدة على أن هناك ضيقا متزايدا بها فى السنوات الأخيرة، التى أعقبت أحداث الحادى عشر من سبتمبر. فى خلفية القرار يبرز بقوة دور حزب اليمين الشعبوى المعادى للوافدين عامة وللمسلمين بوجه أخص، ولا نستطيع أن ننكر الأثر السلبى الذى أحدثته التعبئة الإعلامية المضادة التى حذرت من «أسلمة أوروبا» فشوهت صورة المسلمين وخوفت الناس من وجودهم. ولتلك التعبئة جذور عميقة فى الإدراك الأوروبى، تمتد إلى زمن الحروب الصليبية فى القرنين العاشر والحادى عشر الميلاديين. (لا ننسى أن بابا روما الحالى حذر بدوره من أسلمة أوروبا)، كما أننا لا نستبعد أن تكون الممارسات التى صدرت عن بعض العرب قد أسهمت فى إحداث النفور منهم والضيق بهم. وأقرب تلك الممارسات ما وقع بين العقيد القذافى وسويسرا، التى احتجزت شرطتها ابنه وزوجته، بتهمة إساءة معاملة مرافقين لهما كانا يعملان فى خدمتهما، وهى الأزمة التى فجرت غضب القذافى، وأدت إلى تدهور علاقات البلدين. فسحبت ليبيا ودائعها من البنوك السويسرية التى تقدر بمليارات الدولارات، كما أوقفت ضخ النفط إليها وخطوط الطيران بين البلدين. ولايزال اثنان من رجال الأعمال السويسريين معتقلين على ذمة ذلك الحادث. أسوأ ما فى الاستفتاء الذى تم أنه جاء كاشفا عن موقف سلبى من أغلبية المجتمع السويسرى إزاء أحد مظاهر وجود الإسلام والمسلمين بين ظهرانيهم، وهذا الموقف مرشح للتزايد فى سويسرا وللانتقال إلى أقطار أخرى مجاورة (العدوى انتقلت إلى هولندا على الفور) علما بأن ذلك الموقف لا يضغط على الجاليات المسلمة ويثير مخاوفها فحسب، ولكنه يعزز من مكانة القوى اليمينية والفاشية، ويسيئ إلى قيم الحرية الدينية والمساواة التى تعتز بها الديمقراطيات الغربية. إحدى القارئات سمية أمين وجهت إلىّ سؤالا وجيها هو: لماذا غضب المعلقون فى العالم العربى حين صوتت أغلبية السويسريين لصالح حظر المآذن، وهم الذين سكتوا على سحق مسلمى سينكيانج حين قتل منهم المئات ثم قضت إحدى المحاكم الصينية بإعدام تسعة منهم مؤخرا؟ . ولأننى لم أكن من الذين سكتوا، فقد أحلت السؤال إلى غيرى باعتبار أنهم أولى بالإجابة.