يردد الكثيرون أن الصورة قاتمة. وعندما تم إعلان اليوم العالمى للتسامح، بدأت هتافات البعض بأننا نفتقر إلى التسامح! فى محاولة منا للنظر بشكل موضوعى إلى الصورة، استعنا باستبيان حول التسامح كقيمة وكسلوك، وتم تطبيقه على عينة مكونة من 55 فردا من الذكور والإناث. هو ليس بحثا علميا بالمعنى الدقيق بل محاولة للقراءة الموضوعية المتأنية التى قد تصيبها الأخطاء المنهجية. ونفرق هنا بين التسامح كقيمة وكسلوك وهو ما نشير إليه «بالمفارقة القيمية» أى المفارقة بين ما ندركه عن أنفسنا من قيم (القيم التى أظن أننى أتحلى بها) وبين ما أمارسه من سلوك فعلى يتعلق بهذه القيمة. فبعض الناس تردد دوما أن التسامح مهم فى حياتنا، بينما يتسم سلوكهم بالعكس. دراسات «المفارقة القيمية» تشغل حيزا كبيرا من اهتمامات الدراسات الغربية وحيزا أقل فى مصر والعالم العربى. ففى دراسة لعالم الاجتماع، الدكتور أحمد زايد، حول سمات المصرى المعاصر اتضح أن سمة التناقض والازدواجية من أبرز السمات التى تتصف بها الشخصية المصرية المعاصرة. تكون الاستبيان من مجموعة من الأمثال الشعبية التى تعكس قيمة التسامح بالإيجاب أو بالسلب، مثل «عمر الأسية ما تتنسى» و«المسامح كريم» و«اللى يرشك بالميه رشه بالدم» إلى ما غير ذلك. كما تضمن مجموعة من العبارات السلوكية التى تعكس واقع التسامح فى الحياة اليومية مثل «لا يمكننى نسيان ما فعله البعض معى من إساءات» و«إذا مسنى شخص سأجعله يندم وسأفعل به أضعاف ما فعله»... جاء اختيارنا للأمثال الشعبية بوصفها أداة مهمة من أدوات البحث كما يمكنها أن تكشف لنا الكثير من ملامح الثقافة (الشعبية، الفكرية، النفسية)، كما يرى محمد رجب النجار فى كتابه «من فنون الأدب الشعبى فى التراث العربى» حيث يؤكد أنها تحمل الكثير من القيم الثقافية التى ظلت تحكم الشخصية العربية وتشكل وجدانها الجمعى. أفادت نتائج الاستبيان الذى أجريناه على فئات مختلفة أن الإناث متسامحات بشكل أكبر من الذكور حيث بلغت نسبة التسامح المتصور لدى الإناث 76% ولدى الذكور 64%. كشفت النتائج كذلك عن وجود مفارقة بين ما يدعيه البعض من امتلاكه لقيم التسامح وبين ما يمارسه من سلوكيات التسامح، وصلت نسبة المفارقة المرتفعة لدى الإناث 24% ولدى الذكور 23%، كما وجدت مفارقة منخفضة لدى الإناث بنسبة 70% ولدى الذكور بنسبة 68%. المفارقة الأعلى لدى الإناث تعكس ازدواجية الإناث بشكل أكبر من الذكور، ويرجع ذلك إلى الضغط المتزايد الذى يقع على المرأة حيث تظهر الازدواجية وتتجلى بشكل أكبر فى ظل الظروف الضاغطة، فلا يفعل الفرد ما يؤمن به. فى هذا السياق يتحدث د.حامد عمار فى كتابه «فى بناء الإنسان العربى» «على أن ظروف التنمية السائدة قد أحدثت تغييرات جذرية فى قيم الإنسان العربى، فغدت قيم الصدق والأمانة والتسامح والإخلاص أمورا تنتمى إلى عالم الكتب وتقتصر على المستوى اللفظى فقط دون الممارسة. أى أصبح المهم للفرد هو ضمان مصلحته الشخصية دون اعتبار للآخرين أو الصالح العام. ينعكس ذلك بشدة على قيمة التسامح، فنرى العديد من الأهالى تعاقب الأبناء على تسامحهم مع زملائهم فى المدرسة، وتزرع فيهم معنى آخر لها وهو الضعف، ومن هنا يحدث لدى الطفل منذ الصغر «مفارقة قيمية» على مستوى القيم وليس على مستوى السلوك، فيصبح لديه قيمتان تتنازعان فى عقله واحدة تؤكد أهمية التسامح كقيمة محببة تنص عليها الكتب السماوية والمدرسون فى حصص التربية الدينية، والتسامح كقيمة سلبية كما يرسخها لديه الوالدين.